فلم يزل يحمل حتى انتهى إلى معاوية والذين بايعوه على الموت ، فأمرهم أن يصمدوا لعبد الله بن بُديل ، وبعث إلى حبيب بن مَسلَمة الفهري وهو في الميسرة ، أن يحمل عليه بجميع من معه ، واختلط الناس واضطرم الفيلقان ؛ ميمنة أهل العراق وميسرة أهل الشام ، وأقبل عبد الله بن بُديل يضرب الناس بسيفه قُدُماً ، حتى أزال معاوية عن موقفه وجعل ينادي : يا ثارات عثمان! وإنّما يعني أخاً له قُتل ، وظنَّ معاوية وأصحابه أنّه يعني : عثمان بن عفان ، وتراجع معاوية عن مكانه القهقرى كثيراً ، وأرسل إلى حبيب بن مسلَمة مرّة ثانية وثالثة يستنجده ويستصرخه ، ويحمل حبيب حملة شديدة بميسرة معاوية على ميمنة العراق ، فكشفها حتى لم يبق مع ابن بُديل إلاّ نحو مائة إنسان من القرّاء ، فاستند بعضهم إلى بعض يحمون أنفسهم ، ولجَّ ابن بُديل في الناس ، وصمّم على قتل معاوية ، وجعل يطلب موقفه ، ويصمد نحوه حتى انتهى إليه ، ومع معاوية عبد الله بن عامر واقفاً ، فنادى معاوية بالناس : وَيْلَكم ؛ الصخر والحجارة إذا عجزتم عن السلاح. فرضخه الناس بالصخر والحجارة ، حتى أثخنوه فسقط ، فأقبلوا عليه بسيوفهم فقتلوه.
وجاء معاوية وعبد الله بن عامر حتى وقفا عليه ؛ فأمّا عبد الله بن عامر فألقى عمامته على وجهه وترحّم عليه وكان له من قبلُ أخاً وصديقاً ، فقال معاوية : اكشف عن وجهه. فقال : لا والله لا يُمثَّل به وفيَّ روح ، فقال معاوية : اكشف عن وجهه فإنّا لا نُمثِّل به ؛ قد وهبناه لك. فكشف ابن عامر عن وجهه فقال معاوية : هذا كبش القوم وربّ الكعبة ، اللهمّ أظفِرني بالأشتر النخعي والأشعث الكندي! والله ما مثل هذا إلاّ كما قال الشاعر (١)
أخو الحرب إن عضّت به الحربُ عضّها |
|
وإن شمّرَتْ عن ساقِها الحربُ شمّرا |
ويحمي إذا ما الموت كان لقاؤه |
|
قِدى الشِّبْر (٢) يحمي الأنف أن يتأخّرا |
__________________
(١) هو حاتم الطائي من قصيدة في ديوانه : ص ١٢١ [ص ٤٩] ، ولم يُرْوَ فيه البيت الثالث. (المؤلف)
(٢) قِدى الشبر : قدره.