في شأنه ، فأظهر الأبناء طاعتهم لأبيهم وابدوا احترامهم الفائق ومحبتهم العميقة ، وتحركوا الى خارج المدينة.
يقال : انّ أباهم ودعهم الى بوابة المدينة ثمّ أخذ منهم يوسف وضمّه الى صدره ودمعت عيناه ، ثمّ أودع يوسف عندهم وفارقهم ، ولكن يعقوب كان يودعهم بنظراته ، وكان اخوة يوسف لا يقصرون عن مدارة أخيهم يوسف واظهار عنايتهم به ومحبتهم له طالما كانت تلاحظهم عينا أبيهم ، ولكن ما ان غاب عنهم أبوهم واطمأنوا الى انّه لا يراهم ، حتى انفجرت عقدتهم وصبوا «جام غضبهم» وحقدهم وحسدهم المتراكم لعدّة سنوات على راس يوسف ، فالتفّوا حوله يضربونه بأيديهم ويلتجئ من واحد لآخر ويستجير بهم فلا يجيره احد منهم.
نقرا في رواية انّ يوسف كان يبكي تحت وابل اللكمات والضربات القاسيّة ، ولكن حين أرادوا ان يلقوه في الجبّ شرع بالضحك فجأة ... فتعجب اخوته كثيرا وحسبوا ان أخاهم يظنّ الأمر لا يعدو كونه مزاحا ... ولكنّه رفع الستار عن ضحكه وعلّمهم درسا كبيرا إذ قال : ـ لا انسى انني نظرت ـ ايها الاخوة ـ الى عضلات أيديكم القويّة وقواكم الجسدية الخارقة ، فسررت وقلت في نفسي : ما عسى ان يخشى ويخاف من الحوادث والملمّات من كان عنده مثل هؤلاء الاخوة ، فاعتمدت عليكم وربطت قلبي بقواكم ، والآن وقد أصبحت أسيرا بين أيديكم واستجير بكم من واحد للآخر فلا أجار ، وقد سلطكم الله عليّ لا تعلم هذا الدرس ، وهو الّا اعتمد واتوكّل على احد سواه ... حتى ولو كانوا اخوتي.
وعلى كل حال فالقرآن الكريم يقول في هذا الصدد : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) (١).
__________________
(١) في العبارة المتقدمة حذف جواب «لما» والتقدير كما يلي : فلما ذهبوا به واجمعوا ان يجعلوه في غيابة الجبّ عظمت فتنتهم (تفسير القرطبي) ولعل هذا الحذف اقتضى لعظم هذه الحادثة المؤلمة ان يسكت عنه المتكلم ، وهو بنفسه من فنون البلاغة العربية (تفسير الميزان).