أرباب الحوائج والأطماع ومن كان يخافه إلى بابه ، وملؤا طرقاته وهو يهينهم ، ولا يحفل بشيخ منهم وهو عالم ، وأوقع بالرؤساء وأرباب البيوت حتى استأصل شأفتهم عن آخرهم ، وقدّم الأراذل في مناصبهم ، وكان جلدا قويا حل به مرّة دوسطاريا قوية وأزمنت فيئس منه الأطباء ، وعند ما اشتدّ به الوجع وأشرف على الهلاك ، استدعى بعشرة من وجوه الكتاب كانوا في حبسه وقال : أنتم في راحة وأنا في الألم ، كلّا والله ، واستحضر المعاصير وآلات العذاب وعذبهم فصاروا يصرخون من العذاب وهو يصرخ من الألم طول الليل إلى الصبح ، وبعد ثلاثة أيام ركب وكان يقول كثيرا : لم يبق في قلبي حسرة إلّا كون البيسانيّ لم تتمرّغ شيبته على عتباتي ، يعني القاضي الفاضل عبد الرحيم البيسانيّ ، فإنه مات قبل وزارته ، وكان دريّ اللون تعلوه حمرة ، ومع ذلك فكان طلق المحيا حلو اللسان حسن الهيئة ، صاحب دهاء مع هوج ، وخبث في طيش ، ورعونة مفرطة ، وحقد لا تخبو ناره ، ينتقم ويظنّ أنه لم ينتقم ، فيعود ، وكان لا ينام عن عدوّه ولا يقبل معذرة أحد ، ويتخذ الرؤساء كلهم أعداءه ولا يرضى لعدوّه بدون الهلاك والاستئصال ، ولا يرحم أحدا إذا انتقم منه ، ولا يبالي بعاقبة ، وكان له ولأهله كلمة يرونها ويعملون بها. كما يعمل بالأقوال الإلهية ، وهي إذا كنت دقماقا فلا تكن وتدا ، وكان الواحد منهم يعيدها في اليوم مرّات ويجعلها حجة عند انتقامه ، وكان قد استولى على الملك العادل ظاهرا وباطنا ، ولا يمكن أحدا من الوصول إليه ، حتّى الطبيب والحاجب والفرّاش عليهم عيون له لا يتكلم أحد منهم فضل كلمة خوفا منه ، وكان أكبر أغراضه إبادة أرباب البيوت ومحو آثارهم وهدم ديارهم وتقريب الأسقاط وشرار الفقهاء ، وكان لا يأخذ من مال السلطان فلسا ولا ألف دينار ، ويظهر أمانة مفرطة ، فإذا لاح له مال عظيم احتجنه ، وبلغ إقطاعه في السنة مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار ، وكان قد عمي فأخذ يظهر جلدا عظيما وعدم استكانة ، وإذا حضر إليه الأمراء والأكابر وجلسوا على خوانه يقول : قدّموا اللون الفلانيّ للأمير فلان والصدر فلان ، والقاضي فلان ، وهو يبني أموره في معرفة مكان المشار إليه برموز ومقدّمات ، يكابر فيها دوائر الزمان ، وكان يتشبه في ترسله بالقاضي الفاضل ، وفي محاضراته بالوزير عون الدين بن هبيرة ، حتى اشتهر عنه ذلك ، ولم يكن فيه أهلية هذا لكنه كان من دهاة الرجال ، وكان إذا لحظ شخصا لا يقنع له إلا بكثرة الغنى ونهاية الرفعة ، وإذا غضب على أحد لا يقنع في شأنه إلا بمحو أثره من الوجود ، وكان كثيرا ما ينشد :
إذا حقّرت امرأ فاحذر عداوته |
|
من يزرع الشوك لم يحصد به عنبا |
وينشد كثيرا :
تودّ عدوّي ثمّ تزعم أنني |
|
صديقك إنّ الرأي عنك لعازب |
وأخذه مرّة مرض من حمى قوية ، وحدث به النافض ، وهو في مجلس السلطان ينفذ الأشغال ، فما تأثر ولا ألقى جنبه إلى الأرض حتى ذهبت وهو كذلك ، وكان يتعزز على