ذلك ، وأنه لو شاء أخذ الملك لنفسه ، وترك كتابة السرّ لغلامه وأحد كتابه فخر الدين بن المزوق ترفعا عنها واحتقارا بها ، ولبس هيئة الأمراء ، وهي الكلوتة والقباء وشدّ السيف في وسطه ، وتحوّل من داره التي على بركة الفيل إلى دار بعض الأمراء بحدرة البقر ، فغاضبه القضاة ، وكان عند الانتهاء الانحطاط ، ونزل به مرض الموت فنال في مرضه من السعادة ما لم يسمع بمثله لأحد من أبناء جنسه ، وصار الأمير يشبك ومن دونه من الأمراء يتردّدون إليه ، وأكثرهم إذا دخل عليه وقف قائما على قدميه حتى ينصرف إلى أن مات يوم الخميس تاسع عشر شهر رمضان سنة ثمان وثمانمائة ، ولم يبلغ ثلاثين سنة.
وكانت جنازته أحد الأمور العجيبة بمصر لكثرة من شهدها من الأمراء والأعيان وسائر أرباب الوظائف ، بحيث استأجر الناس السقائف والحوانيت لمشاهدتها ، ونزل السلطان للصلاة عليه ، وصعد إلى القلعة ، فدفن خارج باب المحروق ، وكان من أحسن الناس شكلا وأحلاهم منظرا وأكرمهم يدا مع تدين وتعفف عن القاذورات ، وبسط يد بالصدقات ، إلّا أنه كان غدّارا لا يتوانى عن طلب عدوّه ، ولا يرضى من نكبته بدون إتلاف النفس ، فكم ناطح كبشا وتل عرشا وعالج جبالا شامخة واقتلع دولا من أصولها الراسخة ، وهو أحد من قام بتخريب إقليم مصر ، فإنه ما زال يرفع سعر الذهب حتى بلغ كلّ دينار إلى مائتي درهم وخمسين درهما من الفلوس ، بعد ما كان بنحو خمسة وعشرين درهما ، ففسدت بذلك معاملة الإقليم وقلت أمواله وغلت أسعار المبيعات ، وساءت أحوال الناس ، إلى أن زالت البهجة وانطوى بساط الرقة ، وكاد الإقليم يدمر كما ذكر ذلك عند ذكر الأسباب التي نشأ عنها خراب مصر من هذا الكتاب ، عفا الله عنه وسامحه ، فلقد قام بمواراة آلاف من الناس الذين هلكوا في زمان المحنة ، سنة ست وسنة سبع وثمانمائة ، وتكفينهم ، فلم ينس الله له ذلك وستره كما ستر المسلمين ، وما كان ربك نسيا.
الخانقاه البندقدارية
هذه الخانقاه بالقرب من الصليبة ، كان موضعها يعرف قديما بدويرة مسعود ، وهي الآن تجاه المدرسة الفارقانية وحمّام الفارقاني. أنشأها الأمير علاء الدين أيدكين البندقداريّ الصالحيّ النجميّ ، وجعلها مسجدا لله تعالى ، وخانقاه ، ورتب فيها صوفية وقرّاء في سنة ثلاث وثمانين وستمائة ، وفي سنة ثمان وأربعين وستمائة استنابه الملك المعز أيبك ، فواظب الجلوس بالمدارس الصالحية مع نوّاب دار العدل ، وإلى أيدكين هذا ينسب الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ ، لأنه كان أوّلا مملوكه ، ثم انتقل منه إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب ، فعرف بين المماليك البحرية ببيبرس البندقداريّ ، وعاش أيدكين إلى أن صار بيبرس سلطان مصر وولاه نيابة السلطنة بحلب ، في سنة تسع وخمسين وستمائة ، وكان الغلاء بها شديدا ، فلم تطل أيامه وفارقها بدمشق بعد محاربة سنقر الأشقر والقبض عليه ، في حادي