وذكر الشريف أبو البركات أسعد بن علي بن أبي الغنائم الحسيني الجواني النسابة : أن شيث بن آدم هو الذي بنى الكعبة بالطين والحجارة على موضع الخيمة التي كان الله وضعها لآدم من الجنة ، فعلى هذه الأقاويل يكون أول بيت وضع للناس على ظاهره ، وروي عن ابن عباس أنه أول بيت حج بعد الطوفان ، فتكون الأولية باعتبار هذا الوصف من الحج إذ كان قبله بيوت ، وروي عن عليّ أنه سأله رجل : أهو أول بيت؟ فقال عليّ : لا قد كان قبله بيوت ، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركا فيه الهدى والرحمة والبركة ، فأخذ الأولية بقيد هذه الحال. وقيل : أول من بناه إبراهيم ثم قوم من العرب من جرهم ، ثم هدم فبنته العمالقة ، ثم هدم فبنته قريش. وقال أبو ذر : قلت يا رسول الله أيّ مسجد وضع أول؟ قال : «المسجد الحرام» قلت ؛ ثم أي؟ قال : «المسجد الأقصى» قلت : كم كان بينهما؟ قال : «أربعون سنة» وظاهر هذا الحديث أنه من وضع إبراهيم ، وهو معارض لما ذكر في الأقوال السابقة : إلا أنّ حمل الوضع على التجديد فيمكن الجمع بينهما. وظاهر حديث أبي ذر يضعف قول الزجاج : أنّ بيت المقدس هو من بناء سليمان بن داود عليهماالسلام ، بل يظهر منه أنه من وضع إبراهيم ، فكما وضع الكعبة وضع بيت المقدس. وقد بيّن صلىاللهعليهوسلم : «أن بين الوضعين أربعين سنة» وأين زمان إبراهيم من زمان سليمان! ومعنى وضع للناس : أي متعبدا يستوي في التعبد فيه الناس ، إذ غيره من البيوت يختص بأصحابها ، والمشترك فيه الناس هو محل طاعتهم وعبادتهم وقبلتهم. وقرأ الجمهور «وضع» مبنيا للمفعول. وقرأ عكرمة وابن السميفع وضع مبنيا للفاعل ، فاحتمل أن يعود على الله ، واحتمل أن يعود على إبراهيم ، وهو أقرب في الذكر وأليق وأوفق لحديث أبي ذر. وللناس متعلق بوضع ، واللام فيه للتعليل ، وللذي ببكة خبر إنّ. والمعنى : للبيت الذي ببكة. وأكدت النسبة بتأكيدين : إنّ واللام. وأخبر هنا عن النكرة وهو أول بيت لتخصصها بالإضافة ، وبالصفة التي هي وضع إمالها ، وإما لما أضيفت إليه. إذ تخصيصه تخصيص لها بالمعرفة وهو للذي ببكة ، لأن المقصود الإخبار عن أول بيت وضع للناس ، ويحسن الإخبار عن النكرة بالمعرفة دخول إنّ. ومن أمثلة سيبويه : أنّ قريبا منك زيد. تخصص قريب بلفظ منك ، فحسن الإخبار عنه. وقد جاء بغير تخصيص وهو جائز في الاختيار قال :
وأنّ حراما أن أسب مجاشعا |
|
بآبائي الشم الكرام الخضارم |
والباء في ببكة ظرفية كقولك : زيد بالبصرة. ويضعف أن يكون بكة هي المسجد ، لأنه يلزم أن يكون الشيء ظرفا لنفسه ، وهو لا يصحّ.