تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) (١) وهذا في النهي نظير قوله في الأمر : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٢) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) (٣) وقد جعل النهي في الظاهر للتقلب ، وهو في المعنى للمخاطب. وهذا من تنزيل السبب منزلة المسبب ، لأن التقلب لو غره لاغتر به ، فمنع السبب ليمتنع المسبب انتهى كلامه. وملخص الوجهين اللذين ذكرهما : أن يكون الخطاب له والمراد أمّته ، أوله على جهة التأكيد والتنبيه ، وإن كان معصوما من الوقوع فيه كما قيل :
قد يهزّ الحسام وهو حسام |
|
ويجب الجواد وهو جواد |
وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب : لا يغرنك ولا يصدنك ولا يصدنكم ولا يغرنكم وشبهه بالنون الخفيفة. وتقلبهم : هو تصرفهم في التجارات قاله : ابن عباس ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج. أو ما يجري عليهم من النعم قاله : عكرمة ، ومقاتل. أو تصرّفهم غير مأخوذين بذنوبهم قاله : بعض المفسرين.
(مَتاعٌ قَلِيلٌ) أي ذلك التقلب والتبسط شيء قليل متعوا به ، ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد. وقلته باعتبار انقضائه وزواله ، وروي : «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع» أخرجه الترمذي.
وروي : «ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب قال في ظل شجرة في يوم حار ثم راح وتركها» أو باعتبار ما فاتهم من نعيم الآخرة ، أو باعتبار ما أعدّ الله للمؤمنين من الثواب.
(ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) ثم المكان الذي يأوون إليه إنما هو جهنم ، وعبر بالمأوى إشعارا بانتقالهم عن الأماكن التي تقلبوا فيها وكان البلاد التي تقلبوا فيها إنما كانت لهم أماكن انتقال من مكان إلى مكان ، لا قرار لهم ولا خلود. ثم المأوى الذي يأوون إليه ويستقرّون فيه هو جهنم.
(وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي وبئس المهاد جهنم. وقال الحطيئة :
أطوّف ما أطوف ثم آوى |
|
إلى بيت قعيدته لكاع |
(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) لما تضمن ما تقدم أن ذلك التقلب والتصرف في البلاد هو متاع قليل ، وإنهم يأوون بعد إلى جهنم ،
__________________
(١) سورة القلم : ٦٨ / ٨.
(٢) سورة الفاتحة : ١ / ٥.
(٣) سورة النساء : ٤ / ١٣٦.