حكى قول الكوفيين وقال : وهذا ضعيف ، فرجع أخيرا إلى ما ضعفه ، وكان قد قدم أنّ مذهب سيبويه : أنّ مفعول : يريد ، محذوف ، والتقدير : يريد الله هذا التبيين.
والشهوات جمع شهوة ، وهي ما يغلب على النفس محبته وهواه. ولما كانت التكاليف الشرعية فيها قمع النفس وردها عن مشتهياتها ، كان اتباع شهواتها سببا لكل مذمّة ، وعبر عن الكافر والفاسق بمتبع الشهوات كما قال تعالى : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (١) واتباع الشهوة في كل حال مذموم ، لأن ذلك ائتمار لها من حيث ما دعته الشهوة إليه. أما إذا كان الاتباع من حيث العقل أو الشرع فذلك هو اتباع لهما لا للشهوة. ومتبعو الشهوات هنا هم الزناة قاله : مجاهد. أو اليهود والنصارى قاله : السدي. أو اليهود خاصة لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب ، أو المجوس كانوا يحلون نكاح الأخوات من الأب ، ونكاح بنات الأخ ، وبنات الأخت ، فلما حرّمهنّ الله قالوا : فإنكم تحلون بنت الخالة والعمة ، والعمة عليكم حرام ، فانكحوا بنات الأخ والأخت ، أو متبعو كل شهوة قاله : ابن زيد ، ورجحه الطبري. وظاهره العموم والميل ، وإن كان مطلقا فالمراد هنا الميل عن الحق ، وهو الجور والخروج عن قصد السبيل. ولذلك قابل إرادة الله بإرادة متبعي الشهوات ، وشتان ما بين الإرادتين. وأكد فعل الميل بالمصدر على سبيل المبالغة ، لم يكتف حتى وصفه بالعظم. وذلك أن الميول قد تختلف ، فقد يترك الإنسان فعل الخير لعارض شغل أو لكسل أو لفسق يستلذ به ، أو لضلالة بأن يسبق له سوء اعتقاد. ويتفاوت رتب معالجة هذه الأشياء ، فبعضها أسهل من بعض ، فوصف مثل هؤلاء بالعظم ، إذ هو أبعد الميول معالجة وهو الكفر. كما قال تعالى : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) (٢) (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) (٣).
وقرأ الجمهور : أن تميلوا بتاء الخطاب. وقرىء : بالياء على الغيبة. فالضمير في يميلوا يعود على الذين يتبعون الشهوات. وقرأ الجمهور : ميلا بسكون الياء. وقرأ الحسن : بفتحها ، وجاءت الجملة الأولى اسمية ، والثانية فعلية لإظهار تأكيد الجملة الأولى ، لأنها أدل على الثبوت. ولتكرير اسم الله تعالى فيها على طريق الإظهار والإضمار. وأما الجملة الثانية فجاءت فعلية مشعرة بالتجدد ، لأن أرادتهم تتجدد في كل وقت. والواو في قوله :
__________________
(١) سورة مريم : ١٩ / ٥٩.
(٢) سورة النساء : ٤ / ٨٩.
(٣) سورة النساء : ٤ / ٤٤.