المعاصي والاستمرار عليها. فيكون القتل عبر به عن الهلاك مجازا كما جاء : شاهد قتل ثلاثا نفسه ، والمشهود له ، والمشهود عليه أي : أهلك. وقرأ علي والحسن : ولا تقتلوا بالتشديد.
(إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) حيث نهاكم عن إتلاف النفوس ، وعن أكل الحرام ، وبين لكم جهة الحل التي ينبغي أن يكون قوام الأنفس. وحياتها بما يكتسب منها ، لأنّ طيب الكسب ينبني عليه صلاح العبادات وقبولها. ألا ترى إلى ما ورد من حجّ بمال حرام أنه إذا قال : لبيك قال الله له : لا لبيك ولا سعديك ، وحجك مردود عليك. وألا ترى إلى الداعي ربه ومطعمه حرام وملبسه حرام كيف جاء أنّى يستجاب له؟ وكان النهي عن أكل المال بالباطل متقدما على النهي عن قتل أنفسهم ، لأنه أكثر وقوعا ، وأفشى في الناس من القتل ، لا سيما إن كان المراد ظاهر الآية من أنه نهى أن يقتل الإنسان نفسه ، فإن هذه الحالة نادرة. وقيل : رحيما حيث لم يكلفكم قتل أنفسكم حين التوبة كما كلف بني إسرائيل قتلهم أنفسهم ، وجعل ذلك توبة لهم وتمحيصا لخطاياهم.
(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً) الإشارة بذلك إلى ما وقع النهي عنه في هذه الجملة من أكل المال بالباطل ، وقتل الأنفس. لأن النهي عنهما جاء متسقا مسرودا ، ثم ورد الوعيد حسب النهي. وذهب إلى هذا القول جماعة. وتقييد أكل المال بالباطل بالاعتداء والظلم على هذا القول ليس المعنى أن يقع على جهة لا يكون اعتداء وظلما ، بل هو من الأوصاف التي لا يقع الفعل إلا عليه. وقيل : إنما قال : عدوانا وظلما ليخرج منه السهو والغلط ، وما كان طريقه الاجتهاد في الأحكام. وأما تقييد قتل الأنفس على تفسير قتل بعضنا بعضا بقوله : عدوانا وظلما ، فإنما ذلك لأنّ القتل يقع كذلك ، ويقع خطأ واقتصاصا. وقيل الإشارة بذلك إلى أقرب مذكور وهو : قتل الأنفس ، وهو قول عطاء ، واختيار الزمخشري. قال : ذلك إشارة إلى القتل أي : ومن يقدم على قتل الأنفس عدوانا وظلما لا خطأ ولا اقتصاصا انتهى. ويكون نظير قوله : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) (١) وذهب الطبري : إلى أنّ ذلك إشارة إلى ما سبق من النهي الذي لم يقترن به وعيد وهو من قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَ) (٢) إلى هذا النهي الذي هو ولا تقتلوا أنفسكم ، فأما ما قبل ذلك من النهي فقد اقترن به الوعيد. وما
__________________
(١) سورة المائدة : ٥ / ٩٣.
(٢) سورة النساء : ٤ / ١٩.