وصفوا ببعض لين وترديد وتحكيم للرسول في بعض الأمر ، جاء من بعد مواضعه. ألا ترى إلى قوله : (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) (١) وقوله بعد : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) (٢) فكأنهم لم يبادروا بالتحريف ، بل عرض لهم التحريف بعد استقرار الكلم في مواضعها. وقد يقال : أنهما شيئان ، لكنه حذف هنا. وفي أول المائدة : من بعد مواضعه ، لأن قوله : عن مواضعه يدل على استقرار مواضع له ، وحذف في ثاني المائدة عن مواضعه. لأن التحريف من بعد مواضعه يدل على أنه تحريف عن مواضعه ، فالأصل يحرفون الكلم من بعد مواضعه. فحذف هنا البعدية ، وهناك حذف عنها. كل ذلك توسع في العبارة ، وكانت البداءة هنا بقوله : عن مواضعه ، لأنه أخصر. وفيه تنصيص باللفظ على عن ، وعلى المواضع ، وإشارة إلى البعدية.
(وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا) أي : سمعنا قولك ، وعصينا أمرك ، أو سمعناه جهرا ، وعصيناه سرا قولان. والظاهر أنهم شافهوا بالجملتين النبي صلىاللهعليهوسلم مبالغة منهم في عتوهم في الكفر ، وجريا على عادتهم مع الأنبياء. ألا ترى إلى قوله : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا) (٣).
(وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) هذا الكلام غير موجه ، ويحتمل وجوها. والظاهر أنهم أرادوا به الوجه المكروه لسياق ما قبله من قوله : سمعنا وعصينا ، فيكون معناه : اسمع لا سمعت. دعوا عليه بالموت أو بالصمم ، وأرادوا ذلك في الباطن ، وأروا في الظاهر تعظيمه بذلك. إذ يحتمل أن يكون المعنى : واسمع غير مأمور وغير صالح أن تسمع مأمورا بذلك. وقال الزمخشري : أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه ومعناه : غير مسمع جوابا يوافقك ، فكأنك لم تسمع شيئا انتهى ، وقاله ابن عباس. قال الزمخشري : أو اسمع غير مسمع كلاما ترضاه ، فسمعك عنه ناب. ويجوز على هذا أن يكون غير مسمع مفعول اسمع ، أي : اسمع كلاما غير مسمع إياك ، لأنّ أذنك لا تعيه نبوّا عنه. ويحتمل المدح أي : اسمع غير مسمع مكروها من قولك : أسمع فلان فلانا إذا سبه. قال ابن عطية : ومن قال : غير مسمع غير مقبول منك ، فإنه لا يساعده التصريف ، وقد حكاه الطبري عن الحسن ومجاهد انتهى. ووجه أن التصريف لا يساعد عليه هو أن العرب لا تقول أسمعتك بمعنى قبلت منك ، وإنما
__________________
(١) سورة المائدة : ٥ / ٤١.
(٢) سورة المائدة : ٥ / ٤٢.
(٣) سورة البقرة : ٢ / ٩٣.