قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) في سورة البقرة [٢٤٩].
والخطاب في : (يَرَوْنَهُمْ) كالخطاب في قوله : (قَدْ كانَ لَكُمْ).
والرؤية هنا بصرية لقوله : (رَأْيَ الْعَيْنِ). والظاهر أنّ الكفار رأوا المسلمين يوم بدر عند اللقاء والتلاحم مثلي عددهم ، فوقع الرعب في قلوبهم فانهزموا. فهذه الرؤية جعلت آية لمن رأوها وتحقّقوا بعد الهزيمة أنّهم كانوا واهمين فيما رأوه ليكون ذلك أشدّ حسرة لهم ، وتكون هذه الرؤية غير الرؤية المذكورة في الأنفال [٤٤] بقوله : (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) فإنّ تلك يناسب أن تكون وقعت قبل التلاحم ، حتى يستخفّ المشركون بالمسلمين ، فلا يأخذوا أهبتهم للقائهم ، فلمّا لاقوهم رأوهم مثلي عددهم فدخلهم الرعب والهزيمة ، وتحققوا قلّة المسلمين بعد انكشاف الملحمة فقد كانت إرادة القلّة وإرادة الكثرة سببي نصر للمسلمين بعجيب صنع الله تعالى. وجوّز أن يكون المسلمون رأوا المشركين مثلي عدد المؤمنين ، وكان المشركون ثلاثة أمثالهم ، فقلّلهم الله في أعين أنّهم ثلاثة أضعافهم لخافوا الهزيمة ، وتكون هذه الإراءة هي الإراءة المذكورة في سورة الأنفال [٤٤] : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) ويكون ضمير الغيبة في قوله : (مقليهم) راجعا للمسلمين على طريقة الالتفات ، وأصله ترونهم مثليكم على أنّه من المقول.
وقرأ نافع وأبو جعفر ويعقوب : ترونهم ـ بتاء الخطاب ـ وقرأه الباقون بياء الغيبة : على أنّه حال من و (أُخْرى كافِرَةٌ) ، أو من (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي مثلي عدد المرئيين. إن كان الراءون هم المشركين ، أو مثلي عدد الرائين ، إن كان الراءون هم المسلمين ؛ لأنّ كليهما جرى ضميره على الغيبة وكلتا الرؤيتين قد وقعت يوم بدر. وكلّ فئة علمت رؤيتها وتحدّيت بهاته الآية. وعلى هذه القراءة يكون العدول عن التعبير بفئتكم وفئتهم إلى قوله : (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ) ، لقصد صلوحية ضمير الغيبة لكلتا الفئتين ، فيفيد اللفظ آيتين على التوزيع ، بطريقة التوجيه.
و «رأي العين» مصدر مبيّن لنوع الرؤية : إذ كان «فعل رأى» يحتمل البصر والقلب ، وإضافته إلى العين دليل على أنّه يستعمل مصدرا لرأى القلبية ، كيف والرأي اسم للعقل ، وتشاركها فيها رأي البصرية ، بخلاف الرؤية فخاصّة بالبصرية.
وجملة (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) تذييل ؛ لأنّ تلك الرؤية كيفما فسّرت تأييد للمسلمين ، قال تعالى : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ