وبيان المجمل وتخصيص العموم.
وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه ، وعلى العلماء اعتماد الشواهد والدلائل ، وليس لهم أن يعتمدوا مجرد رأيهم فيه ، وعلى ما تقدم بيانه فكل لفظ احتمل معنيين ، فهو قسمان :
أحدهما : أن يكون أحدهما أظهر من الآخر ، فيجب الحمل على الظاهر ، إلا أن يقوم دليل على أن المراد هو الخفي دون الجلي فيحمل عليه.
الثاني : أن يكونا جليين والاستعمال فيهما حقيقة ، وهذا على ضربين :
أحدهما : أن تختلف أصل الحقيقة فيهما فيدور اللفظ بين معنيين ، هو في أحدهما حقيقة لغوية وفي الآخر حقيقة شرعية ، فالشرعية أولى إلا أن تدل قرينة على إرادة اللغوية ؛ نحو قوله تعالى : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [التوبة : ١٠٣].
وكذلك إذا دار بين اللغوية والعرفية ، فالعرفية أولى لطريانها على اللغة ، ولو دار بين الشرعية والعرفية ، فالشرعية أولى ؛ لأن الشرع ألزم.
الضرب الثاني : لا تختلف أصل الحقيقة ، بل كلا المعنيين استعملا فيهما في اللغة أو في الشرع أو العرف على حد سواء ، وهذا ـ أيضا ـ على ضربين :
أحدهما : أن يتنافيا اجتماعا ، ولا يمكن إرادتهما باللفظ الواحد كالقرء ، حقيقة في الحيض والطهر ، فعلى المجتهد أن يجتهد في المراد منهما بالأمارات الدالة عليه ، فإذا وصل إليه كان هو مراد الله في حقه ، وإن اجتهد مجتهد آخر فأدى اجتهاده إلى المعنى الآخر كان ذلك مراد الله تعالى في حقه ؛ لأنه نتيجة اجتهاده ، وما كلف به فإن لم يترجح أحد الأمرين لتكافؤ الأمارات فقد اختلف أهل العلم ، فمنهم من قال : يخير في الحمل على أيهما شاء ومنهم من قال : يأخذ بأعظمهما حكما ولا يبعد اطراد وجه ثالث ، وهو أن يأخذ بالأخف كاختلاف جواب المفتين.
الضرب الثاني : ألا يتنافيا اجتماعا ، فيجب الحمل عليهما عند المحققين ، ويكون ذلك أبلغ في الإعجاز والفصاحة وأحفظ في حق المكلف إلا أن يدل دليل على إرادة أحدهما ، وهذا ـ أيضا ـ ضربان :
أحدهما : أن تكون دلالته مقتضية لبطلان المعنى الآخر ؛ فيتعين المدلول عليه للإرادة.
الثاني : ألا تقتضي بطلانه ، وهذا اختلف العلماء فيه.