وسمى السماء بناء ـ وإن كان لا يشبه بناء الخلق ـ حتى يعلم أن البناء ليس اسم ما يبنى الناس خاصة.
ثم بين بقوله : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ).
أى : وجهوا العبادة إلى الذى ينزل لكم من السماء ماء عند حوائجكم ، ولا تعبدوا من تعلمون أنه لم يخلقكم ، ولا أنزل لكم من السماء ماء ، ولا أخرج لكم من ذلك الماء ثمرات تكون رزقا لكم.
بل هو الله الواحد الذى لا شريك له ؛ ولأنه يخلقكم ، ويرزقكم ، ويخرج لكم من ذلك الماء المنزل من السماء رزقا تأكلونه ، وماء عذبا تشربونه.
وفى الآية دلالة أن المقصود فى خلق السماء والأرض ، وإنزال الماء منها ، وإخراج هذه الثمرات وأنواع المنافع ـ بنو آدم ، وهم الممتحنون فيها ؛ بدلالة قوله : (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً) وما ذكر من المخرج والمنزل منها ، وما ذكر فى آية أخرى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثية : ١٣] ، ومنه (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهار) [إبراهيم : ٣٣ ، النحل : ١٢] ، (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ) [إبراهيم : ٣٢] مما يكثر من الآيات.
أضاف ذلك كلّه إلينا ، ثم جعل ـ عزوجل ـ بلطفه منافع السماء متصلة بمنافع الأرض على بعد ما بينهما من المسافة ، حتى لا تخرج الأرض شيئا إلا بما ينزل من السماء من الماء ؛ ليعلم أن منشئ السماء هو منشئ الأرض ؛ لأنه لو كان منشئ هذا غير منشئ الآخر لكان لا معنى لاتصال منافع هذا بمنافع الآخر على بعد ما بينهما ، ولتوهم كون الاختلاف من أحدهما للآخر.
فإذا كان كذلك دل على أن منشئهما واحد ، لا شريك له ولا ند.
ثم زعم قوم : أن الأشياء كلها حلّ لنا ، طلق ، غير محظور علينا ، حتى يجىء ما يحظر ، فاستدلوا بظاهر هذه الآية بقوله : (رِزْقاً لَكُمْ) ، وبقوله : (كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) [البقرة : ١٦٨].
وقال آخرون : لا يدل ذلك على الإباحة ؛ وذلك أن الأشياء لم تصر لنا من كل الوجوه ، فهو على الحظر حتى تجىء الإباحة ، ولأن الأشياء لا تحل إلا بأسباب تتقدم ؛ فظهر الحظر قبل وجود الأسباب ، فهو على ذلك حتى يجىء ما يحل ويبيح.
أو أن يقال : خلق هذه الأشياء لنا محنة امتحنا بها ، أو فتنة فتنا بها ؛ كقوله : (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [الأنفال : ٢٨ ، التغابن : ١٥] ، فتنّا بها ؛ وكقوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ