ويكشف عن ذلك أيضا عند اعترافهم بأن لا علم لهم إلا ما علمهم الله (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) الآية [البقرة : ٣٣] ، ولو لم يكن منهم ما استحقوا به التأديب والتنبيه عن غفلة سبقت منهم ، لم يكن لذلك كثير معنى ؛ إذ لا يخفى على الله عزوجل علم ما ذكر من الكفرة الأشقياء ، فضلا عن الكرام البررة.
ولكن قد يعاتب الأخيار عند الهفوة ، والزلة بما يحل من خوف التنبيه والتوبيخ :
نحو قوله : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [آل عمران : ١٣١].
وقوله لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ ...) الآية [الإسراء : ٧٥].
ولملائكته : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) [الأنبياء : ٢٩].
واستجازوا إمكان العصيان عند المحنة.
ودليل المحنة ما بينا من الفعل بالأمن والخوف المذكورين ، وما مدحوا بعبادتهم لله تعالى ، وما أوعدوا لو ادّعوا الألوهية ؛ ولما لم يحتمل أن يحمدوا على العبادة والطاعة فيما كان فعلهم على الخير والشر ، ولا تعظم المحنة فيما لا يمكن المعصية ، ولا تحتملها البنية ؛ إذ الطاعة هى فى اتقاء المعصية.
وقال أيضا : (لا يَعْصُونَ اللهَ) [التحريم : ٦] ، ولا يقال مثله لمن لا يحتمل فعل المعصية.
فثبت أن المعاصى منهم ممكنة ؛ ولذلك خطر طاعاتهم ، وعظم قدر عباداتهم ، والممتحن مخوف منه الزّلة والهفوة ، بل المعصية ، وكل بلاء إلا أن يعصمه الله تعالى ويحفظه ، وذلك من الله إفضال وإحسان لا يستحقّ قبله ، ولا يلزمه أحد من خلقه.
فجائز الابتلاء به مع ما فى زلة أمثالهم من ترك الرجاء بالخلق ، وقطع الإياس ، والحث على الفراغ إلى الله تعالى بالعصمة والمعونة ؛ إذ لم يقم لطاعته أحد وإن جل قدره عند ما وكل إلى نفسه مما يعلم الله أنه يختار فى شىء الخلاف ، لا أنه يفزع إليه وينزع (١) إليه.
وعلى ذلك معنى زلات الرسل عليهم الصلاة والسلام.
وزعم قوم أن ذلك ليس منهم بالزّلة ، بل الله تعالى عصمهم عنها ، ولكن قوله : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) يخرج على وجهين :
أحدهما : على السؤال بعد أن أعلمهم الله أنهم يفعلون ؛ فقالوا : كيف يفعلون ذلك ، وقد خلقتهم ورزقتهم وأكرمتهم بأنواع النعم ، ونحن إذ خلقتنا نسبّحك بذلك ، ونقدس
__________________
(١) فى أ : ويتضرع.