ومنها فضل ، به جعلت قرب التصدق ؛ لأنه له بحق التلذذ ، لا بحق ما لا بد منه.
وكذلك نوع تقلب الأحوال فى النفس التى هى بحق الضرورة ، لم يجعل لمثل ذلك فضل قربة يؤديها سوى ما به حياته. وذلك يجعل بحكم الفرض عليه ولا ندبه.
وكذلك أمر الصيام : لم يجعل عما لا بد منه للقوة ، ولكن فضل قوة فى الاحتمال.
لكن الزكاة (١) هى من حقوق ما يجوز أن يكون هى لغير من عليه ، ففرض عليه البذل إلى غيره.
وحقوق الأفعال لا تحتمل أن يصير السبب الذى له به يجب أن يكون لغيره فيجب عليه ؛ فجعل فرض ذلك الفعل فى نفسه. وهى تجب للأحوال لوجهين :
أحدهما : أن فيها حقوقا شائعة ، على نحو النفقات ، فأخرت هى إلى الحول ؛ تخفيفا ، أو لما هى تجب فيما له حكم الفضل.
والفضل : ما يفضل عن الحاجة. والحاجات تتجدّد فى أوقات ـ لا أنها تتتابع ـ لا يظهر فى مثله الفضل إلا بمدة بينة أكثرها حول.
ثم فرض الحجّ جعل فى العمر مرة (٢) ؛ لأنه فى حق الأسفار المديدة ، التى لا يختار مثلها للذات إلا فى النوادر ، فلم يوجب مثله إلا خاصّا ؛ فأوجب فى جميع العمر مرة.
__________________
(١) فى أ : الزكوات.
(٢) الحج فرض عين على كل مكلف مستطيع فى العمر مرة ، وهو ركن من أركان الإسلام ، ثبتت فرضيته بالكتاب والسنة والإجماع :
ـ أما الكتاب : فقد قال الله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٩٧]. فهذه الآية نص فى إثبات الفرضية ، حيث عبر القرآن بصيغة (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ) وهى صيغة إلزام وإيجاب ، وذلك دليل الفرضية ، بل إننا نجد القرآن يؤكد تلك الفرضية تأكيدا قويا فى قوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) فإنه جعل مقابل الفرض الكفر ، فأشعر بهذا السياق أن ترك الحج ليس من شأن المسلم ، وإنما هو شأن غير المسلم.
ـ وأما السنة فمنها حديث ابن عمر عن النبى صلىاللهعليهوسلم قال : «بنى الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصيام رمضان ، والحج». وقد عبر بقوله : «بنى الإسلام ...» فدل على أن الحج ركن من أركان الإسلام. وأخرج مسلم عن أبى هريرة قال : «خطبنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : أيها الناس ، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا ، فقال رجل : أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : لو قلت نعم ، لوجبت ولما استطعتم ...». وقد وردت الأحاديث فى ذلك كثيرة جدا حتى بلغت مبلغ التواتر الذى يفيد اليقين والعلم القطعى اليقينى الجازم بثبوت هذه الفريضة.
ـ وأما الإجماع : فقد أجمعت الأمة على وجوب الحج فى العمر مرة على المستطيع ، وهو من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة ويكفر جاحدها.
ينظر : الشرح الكبير للدردير (٢ / ٢) ، مغنى المحتاج (١ / ٤٥٩) ، شرح منتهى الإرادات (١ / ٤٧٢).