ثم اختلف فى قوله : (عَلَى النَّاسِ) :
قيل : «على» بمعنى «اللام» أى للناس. وهذا جائز فى اللغة سائغ ، كقوله : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) [المائدة : ٣] ، أى للنصب.
وقيل : (عَلَى) بمعنى «على» ، أى أن يشهدوا (١) على الأمم للأنبياء على تبليغ الرسالة ، ويشهد الرسول لهم بالعدالة.
وفيه دليل قبول شهادة أهل الإسلام على أهل الكفر ، ورد شهادتهم علينا (٢) ؛ لأنه لو قبلت شهادتنا عليهم على التبليغ ، ثم شهد أولئك بأنهم لم يبلغوا ، لكان فيه تناقض. فدل أن شهادتنا تقبل عليهم ، ولا تقبل شهادتهم علينا. والله أعلم.
ويحتمل قوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) الذين أبوا إجابة الرسل. (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) أن جحدتم الرسالة ، وذلك قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ...) الآية [١٤٣] ، أضاف الله إليه جعلهم (أُمَّةً وَسَطاً). ثبت أن لله فى فعل ذلك فعل به ذكر مننه. والله أعلم.
قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) ، فالوسط : العدل. أخبر ـ عزوجل ـ أنه جعل هذه الأمة عدلا ، فالعدل هو المستحق للشهادة والقبول لها.
ففيه الدلالة على [جعل إجماع (٣) هذه الأمة](٤) حجة ؛ لأنه وصفها بالعدالة ، وصيرها
__________________
(١) فى أ : تشهدوا.
(٢) الأصل أن يكون الشاهد مسلما ؛ فلا تقبل شهادة الكفار ، سواء أكانت الشهادة على مسلم أم على غير مسلم ؛ لقوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ. وقوله : وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) ، والكافر ليس بعدل وليس منا ، ولأنه أفسق الفساق ويكذب على الله تعالى فلا يؤمن منه الكذب على خلقه. وعلى هذا الأصل جرى مذهب المالكية والشافعية والرواية المشهورة عن أحمد. لكنهم استثنوا من هذا الأصل شهادة الكافر على المسلم فى الوصية فى السفر فقد أجازوها ؛ عملا بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ). وأجاز الحنفية شهادة الذميين بعضهم على بعض ، وإن اختلفت مللهم ، وشهادة الحربيين على أمثالهم. وأما المرتد فلا تقبل شهادته مطلقا.
ينظر : البحر الرائق (٧ / ١٠٢ ، ١٠٤) ، المبسوط (١٦ / ١٣٣ ، ١٣٥).
(٣) الإجماع فى اللغة يراد به تارة : العزم ، يقال : أجمع فلان كذا ، أو أجمع على كذا ، إذا عزم عليه ، وتارة يراد به : الاتفاق ، فيقال : أجمع القوم على كذا ، أى : اتفقوا عليه ، وعن الغزالى أنه مشترك لفظى. وقيل : إن المعنى الأصلى له العزم ، والاتفاق لازم ضرورى إذا وقع من جماعة.
والإجماع فى اصطلاح الأصوليين : اتفاق جميع المجتهدين من أمة محمد صلىاللهعليهوسلم فى عصر ما بعد عصره صلىاللهعليهوسلم على أمر شرعى ، والمراد بالأمر الشرعى : ما لا يدرك لو لا خطاب الشارع ، سواء أكان قولا أم فعلا أم اعتقادا أم تقريرا. ينظر : المستصفى (١ / ١٧٣).
وجمهور أهل السنة على أن الإجماع ينعقد باتفاق المجتهدين من الأمة ، ولا عبرة باتفاق غيرهم مهما كان مقدار ثقافتهم ، ولا بد من اتفاق المجتهدين ولو كانوا أصحاب بدعة إن لم يكفروا ـ