لكن قليلا من الذين أنجيناهم مع رسلهم كانوا أولى بقية نهوا عن المنكر وأمروا بالمعروف ، واتبع الذين ظلموا أنفسهم ـ وهم الأكثرية الكثيرة في تلك الأمم ـ ما أترفوا فيه ، من نعمة وعافية ودولة وسلطان ، فكانت الأكثرية لا تأمر بمعروف ولا تنهى عن منكر ، ولكنهم عقدوا عزمهم على اتباع الشهوات ، وساروا وراء ما فيه التنعم والترف من حب الرياسة والثروة وطلب أسباب العيش الهنيء ورفضوا ما وراء ذلك ، ونبذوه وراءهم ظهريا ، وكانوا مجرمين! وأى إجرام أكثر من هذا؟
ومن هنا يعلم أن الترف هو الذي يدعو إلى السرف المفضى إلى الفسوق والعصيان والظلم والإجرام ، يظهر هذا في الكبار والموسرين ثم ينتقل إلى الفقراء المعوزين فتسوء حال الأمم وتتدهور أخلاقها (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) [سورة الإسراء آية ١٦].
وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ، نعم ليس من شأنه سبحانه وتعالى ، أن يهلك القرى ظالما لها وأهلها مصلحون. وقيل المعنى : وما كان ربك مهلكا القرى بسبب الظلم الذي هو الشرك والحال أن أهلها مصلحون في المعاملة بينهم وبين الناس بمعنى أنهم لا يطففون الكيل كما فعل قوم شعيب ، ولا يأتون الرجال كما فعل قوم لوط ، ولا يتبعون كل جبار عنيد كما فعل قوم فرعون ، ولا يبطشون بالناس بطش الجبارين كما فعل قوم هود ، بل لا بد أن يضموا إلى الشرك الإفساد في الأعمال والأحكام ، وهو الظلم المقوض للأمم ولذا قيل الأمم تبقى مع الكفر. ولا تبقى مع الظلم.
وتحتمل الآية : وما كان ربك مهلكا لهم بظلم قليل يقع من الأقلية البسيطة ، والأكثرون مصلحون ، والآية الكريمة تحتمل كل هذا وفوق هذا ، وسبحان من هذا كلامه ـ تبارك وتعالى ـ!!
ولو شاء ربك أيها الحريص على إيمان قومه لجعل الناس أمة واحدة ، وآمن من في الأرض كلهم جميعا.
ولو شاء ربك لخلق الناس وفي غريزتهم وفطرتهم قبول الدين بلا تفكير ولا نظر فكانوا كالنمل والنحل أو الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ، ولكنه شاء لهم ذلك وقدر لهم