وانظر إلى الملك وعقله حينما علم به قال : ائتوني به ، وحينما أجرى التحقيق وظهرت براءته وطول صبره وقوة جلده وكمال عقله قال : ائتوني به أستخلصه لنفسي ، فلما ناقشه وكلمه قال : إنك اليوم لدينا مكين أمين.
قال يوسف : اجعلنى أيها الملك على خزائن الأرض الخاصة بك أتصرف في الأقوات والزرع حتى أنقذ البلاد من شر المجاعة المقبلة التي رأيت رؤياها بالأمس ، ولا تعجب من طلبى هذا إنى حفيظ شديد المحافظة خبير عليم بإدارة السياسة المالية والاقتصادية.
وهنا نقف .. كيف رضى يوسف أن يتعاون مع الملك؟ وكيف طلب تعيينه على خزائن الأرض.
والجواب عن الأول : أن يوسف قبل العمل مع الملك لأنه رأى فيه العقل وحسن السياسة ، وقد جعله صاحب التصرف في الأمر وفي هذا خير ليوسف ولمصر.
وأما طلبه أن يكون واليا على خزائن مصر فلثقته بنفسه وعلمه بأن هذا فيه خير للأمة ، ومن هنا هل لنا أن نقلد يوسف في عمله هذا؟ ومرجع ذلك ضمير المسلم ودينه فيختار ما فيه خير له ولأمته ولدينه.
ومثل ذلك التمكين السابق الذي انتقل يوسف فيه من محنة إلى محنة ومن شدة إلى نعمة ؛ فها هو ذا يوسف في الجب نتيجة لحسد إخوته له ، ثم تأخذه السيارة وتبيعه بيع الرقيق بدراهم معدودة ليذهب إلى بيت العزيز ، ولأمانته ونزاهته جعله العزيز أمينه ، ثم كان موقفه مع امرأة العزيز الذي انتهى به إلى السجن ، ولو لا السجن لما اتصل بخادم الملك فيه الذي رفع اسمه وشهر مكانته حتى عرفه الملك واستخلصه لنفسه.
فكما مكنا له ذلك ورعيناه حتى وصل إلى ما وصل إليه مكنا له في أرض مصر حتى أصبح الآمر الناهي ، والملك المطاع بعد أن دخلها مملوكا طريدا وعبدا يباع بدراهم قليلة وما ذلك إلا من صبره وجلده وقوة تحمله الشدائد ، ومن أمانته وعفته وخلقه ودينه ، وحسن بصره وتدبيره للأمور ، وارعاء الله له في كل طور من أطوار حياته (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) [سورة الحج آية ٣٨].
وها هو ذا يوسف يتبوأ من الأرض وينزل منها حيث شاء ، يصيب برحمته من يشاء من خلقه جزاء لصبرهم وعاقبة لفعلهم ، ولقد صبر يوسف صبرا كثيرا على إخوته ،