يترك دعوة هؤلاء بالخصوص يأسا منهم وكراهية أن يقولوا له : أنزل علينا كنزا أو ملائكة السماء وفجر العيون والأنهار تفجيرا ، فقال له سبحانه : امض في مهمتك ودعوتك العامة ، ولا تكترث بمن يسخر ويهزأ (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) وما عليك إلا البلاغ وبيان الحجة والدليل (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) يحفظ ما يقولون ، ويفعل بهم ما يستحقون.
١٣ ـ ١٤ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي القرآن (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ ...) تحداهم أولا بعشر سور فعجزوا فتحداهم بواحدة فعجزوا أيضا ، ولا سر لهذا العجز إلا أن كلام الله سبحانه فوق كلام المخلوقين تماما كما أن ذاته وصفاته فوق ذاتهم وصفاتهم ، وفي روايات أهل البيت (ع) : أن الله يتجلى في كلماته. وهذا حق وصدق لأن الكلام صفة المتكلم والإناء ينضح بما فيه. وتقدم في الآية ٢٣ من البقرة.
١٥ ـ (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) ما من شك أن حب الحياة طبيعة وغريزة في الإنسان لا يسأل عنه ولا يحاسب عليه ، وأيضا ما من ريب أن من يزرع يحصد ، ومن يتاجر متقنا فن التجارة يربح ، وهكذا كل من سعى لشيء سعيه يقطف ثمرة سعيه ، أو كما قال الإمام (ع) : «من طلب شيئا ناله وبعضه» ولا بأس في ذلك ما دام في نطاق الحق والشرع ، وإنما الإثم على الذين انغمسوا في الشهوات واجترحوا السيئات.
١٦ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) لأن الشهوات والملذات أعمت عقولهم عن الحق ، وأصمت آذانهم عن دعوته (وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها) في الحياة الدنيا (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ومعنى الآية بجملتها أن الذين بذلوا كل ما يملكون من علم وذكاء ونشاط في سبيل غاية واحدة ، وهي مكاسبهم ومنافعهم الشخصية ـ لا جزاء لهم عند الله سبحانه إلا العذاب الأليم حتى ولو انتفع الناس ببعض أعمالهم ما دام القصد منها مجرد الربح والشهرة.
١٧ ـ (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) وهو محمد (ص) وكل من آمن به (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) اختلف المفسرون في تحديد هذا الشاهد وتعيينه ، فمن قائل : أنه جبريل ، وقائل : هو القرآن ، وقائل هو علي بن أبي طالب لحديث «علي مني وأنا من علي» كما جاء في صحيح البخاري والترمذي ومسند الإمام أحمد وخصائص النسائي وتاريخ الطبري والرياض النضرة وكنوز الحقائق وكنز العمال (أنظر فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج ١ ص ٣٣٧ طبعة ١٣٨٣ ه) (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) توراته (إِماماً) يصلح المؤتمين والعاملين به (وَرَحْمَةً) لأنه يهدي للتي هي أقوم ، ومن ذلك البشارة بمحمد (ص) (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بمحمد (ص) وأولئك إشارة إلى الذين يعملون بدلائل الحق وبيناته كالقرآن وتوراة موسى وإنجيل عيسى (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) ضمير به يعود إلى النبي محمد (ص) أما المراد بالأحزاب فهم الذين أجمعوا على عداوة محمد (ص) وحربه ، وفي تفسير المنار