ومن جانب آخر نريهم يعتنون بشأن الأقوال الشاذة ، مهما كانت ، ويتعبون أنفسهم بإيراد الإشكالات الكثيرة على كل واحد منها ولو كان ظاهر البطلان من غير حاجة الى إبطاله ، وبتوضيح موارد النظر في ذيل كلام المخالف وصدره ، ومعناه ولفظه ، وأصله وفرعه ولو كان أجنبيا عن تحقيق حكم المسألة.
ونراهم أيضا باحثين عن بعض مسائل أصول الفقه (اى ما يسمى أصولا ولعلها ليست بأصول!) شهرا أو شهورا عديدة ثمَّ يلتمسون ثمرة لها ، من هنا وهناك ، فقد لا يرى منها عين ولا اثر ، فلما أعياهم الفحص يسكنون الى النذر وأشباهه ويرضون أنفسهم بظهور ثمرتها في النذور ؛ ويقولون لعل ناذرا يبدو له ويقترح نذرا يرتبط بتلك المسألة ، غفلة عن ان هذا الناذر المسكين يمكن ارتباط نذره باية مسألة من مسائل العلوم ، فهل يرضى اللبيب بطرح جميعها في الأصول معتذرا بمثل هذا العذر؟ واسوء من ذلك كله ما نراه من تغيير مجاري البحث في هذه العلوم وخلطها بغيرها فيستدل للمسائل الفقهية أو الأصولية باستدلالات لا يليق إيرادها إلا في المباحث الفلسفية ، مع ان من الواضح ان كل علم يليق بطور من البحث لا يليق به الأخر فالفلسفة تدور على التدقيق والتعمق في الحقائق الكونية الخارجية وتدور استدلالاتها عليها ؛ واما الفقه وأصوله يدوران على أمور اعتبارية تشريعية وأمور عرفية وضوابط جرت عليها سيرة العقلاء فيما بينهم ، وكل من هذين يليق بطور من البحث لا يليق به الأخر ، ولا شك ان تحريف كل منها عن موضعه لا يوجب الا بعدا وضلالا من الحقيقة.
فصارت هذه الأمور وأمثالها تفنى برهة طويلة من أحسن أيام شباب طلاب العلم وشيئا كثيرا من نشاطهم العلمي وقواهم الفكرية ، وتمنعهم عما هو أهم وأنفع. فأصبحت هذه المشكلة بلاء للعلم واهله ولهذا ـ ولغيره ـ صارت ابحاثنا الفقهية اليوم تدور غالبا حول أبواب العبادات وشيء طفيف من المعاملات وبقيت سائر المباحث القيمة متروكة مهجورة إلا عند الأوحدي من العلماء الأعلام
نسأل الله تعالى ونبتهل اليه سبحانه ان يبعث أقواما ذوي عزائم راسخة يقومون. بأعباء هذا الأمر ويهذبون علوم الدين وينفون عنها هذه الزوائد ويهدون طلاب العلم