ولمّا ذكر سبحانه عظيم نعمته على أهل مكّة بما صنعه بأصحاب الفيل ، قال عقيب ذلك :
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) متعلّق بقوله : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ). والفاء لما في الكلام من معنى الشرط ، إذ المعنى : أنّ نعم الله عليهم لا تحصى ، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لأجل (إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) أي : الرحلة في الشتاء إلى اليمن ـ لأنّها بلدة حارّة ـ وفي الصيف إلى الشام ، لأنّها بلدة باردة ، فيمتارون ويتّجرون. وكانوا في رحلتيهم آمنين ، لأنّهم أهل حرم الله وولاة بيته ، فلا يتعرّض لهم ، وغيرهم يتخطّفون ويغار عليهم.
أو بمحذوف (١) ، مثل : اعجبوا. أو بما قبله ، كالتضمين في الشعر ، وهو أن يتعلّق معنى البيت بالّذي قبله تعلّقا لا يصحّ إلّا به. والمعنى : فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش. ويؤيّده أنّهما في مصحف أبيّ سورة واحدة.
والمعنى : أنّه أهلك الحبشة الّذين قصدوهم ليتسامع الناس بذلك ، فيتهيّبوهم زيادة تهيّب ، ويحترموهم فضل احترام ، حتّى ينتظم لهم الأمن في رحلتيهم ، فلا يجترئ أحد عليهم.
والإيلاف من قولهم : آلفت المكان أولفه إيلافا إذا ألفته ، فأنا مؤلف.
وقريش ولد النضر بن كنانة. منقول من تصغير قرش ، وهو دابّة عظيمة في البحر تعبث بالسفن ، فلا تطاق إلّا بالنار. فشبّهوا بها ، لأنّها تأكل ولا تؤكل ، وتعلو ولا تعلى.
وعن معاوية : أنّه سأل ابن عبّاس لم سمّيت قريش؟ قال : لدابّة تكون في البحر من أعظم دوابّه ، يقال لها : قريش ، لا تمرّ بشيء من الغثّ والسمين إلّا أكلته. وصغّر الاسم للتعظيم.
__________________
(١) عطف على قوله : متعلّق بقوله ... ، في بداية الفقرة السابقة.