كمال كرمه بأنّه علّم عباده ما لم يعلموا ، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم. ونبّه على فضل علم الكتابة ، لما فيه من المنافع العظيمة الّتي لا يحيط بها إلّا هو ، فإنّه ما دوّنت العلوم ، ولا قيّدت الحكم ، ولا ضبطت أخبار الأوّلين ومقالاتهم ، ولا كتب الله المنزلة إلّا بالكتابة ، ولو لا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا. ولو لم يكن على دقيق حكمة الله ولطيف تدبيره دليل إلّا أمر القلم والخطّ لكفى به. فعدّد سبحانه في هذه الآيات الشريفة مبدأ أمر الإنسان ومنتهاه ، إظهارا لما أنعم عليه ، من أن نقله من أخسّ المراتب إلى أعلاها ، تقريرا لربوبيّته ، وتحقيقا لأكرميّته.
(كَلَّا) ردع لمن كفر بنعمة الله بطغيانه وإن لم يذكر ، لدلالة الكلام عليه (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) بكثرة عشيرته وأمواله وقوّته. وهذا مفعوله الثاني ، لأنّه بمعنى : علم ، أي : علم نفسه مستغنيا. ومن خصائص أفعال القلوب أن يكون فاعله ومفعوله الأوّل ضميرين لواحد. ولو كان الرؤية بمعنى الإبصار لامتنع في فعلها الجمع بين الضميرين لواحد.
ثمّ خاطب الإنسان على الالتفات تهديدا وتحذيرا من عاقبة الطغيان ، فقال : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) أي : إلى حكمه وجزائه الرجوع ، فإنّه مصدر كالبشرى.
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩))