شهادة واطأت فيها قلوبهم ألسنتهم ، فإنّ الشهادة إخبار عن علم من الشهود ، وهو الحضور والاطّلاع ، ولذلك صدّق الله تعالى المشهود به وكذّبهم في الشهادة بقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) على الحقيقة ، وكفى بالله شهيدا (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) في قولهم : نشهد ، وادّعائهم فيه المواطاة ، لأنّهم لم يعتقدوا ذلك. أو لأنّ قولهم لمّا خلا عن المواطاة لم يكن شهادة في الحقيقة ، فهم كاذبون في تسميته شهادة. أو إنّهم لكاذبون عند أنفسهم ، لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ قولهم : (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه. ولمّا كان الاكتفاء بقوله :
(نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) يوهم أنّ قولهم هذا كذب ، وسّط بينهما قوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) ليميط هذا الإيهام.
(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) حلفهم الكاذب ، أو شهادتهم هذه ، فإنّها تجري مجرى الحلف في التوكيد ، كقولك : أشهد بالله وأعزم بالله في موضع : أقسم (جُنَّةً) وقاية من القتل والسبي (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) صدّا أو صدودا عن الإيمان بمحمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من نفاقهم وصدّهم النّاس عن سبيل الله أو صدودهم.
(ذلِكَ) إشارة إلى سوء عملهم ، أي : ذلك القول الشاهد بأنّهم أسوأ الناس أعمالا. أو إلى حالهم المذكورة ، من النفاق والكذب والاستجنان بالإيمان.
(بِأَنَّهُمْ آمَنُوا) بسبب أنّهم نطقوا بكلمة الشهادة ، وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام (ثُمَّ كَفَرُوا) ثمّ ظهر كفرهم بعد ذلك وتبيّن بما اطّلع عليه من قولهم : إن كان ما يقوله محمّد حقّا فنحن حمير. وقولهم في غزوة تبوك : أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر؟ هيهات. ونحوه قوله تعالى : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) (١) أي : ظهر كفرهم بعد أن أسلموا.
__________________
(١) التوبة : ٧٤.