في العصور المتقادمة ، ومن أئمّة اللغة ، ومنتجع الفضيلة والكمال ، كان يُؤخذ عنه الشعر وأساليبه ، وينتهي إليه السير ، ويُلقى لديه المقالد ، ولم يختلف اثنان في تقدُّمه عند حلبات القريض ، ولا في تولّعه بولاء آل الله الأكرمين ـ صلوات الله عليهم ـ وكان آيةً في الحفظ والذكاء حتى قيل : إنّه كان يحفظ أربعة آلاف ديوان من الشعر غير ألف أرجوزة للعرب غير المقاطيع والقصائد (١) ، وفي معاهد التنصيص (٢) أنّه كان يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة للعرب غير المقاطيع والقصائد. وفي التكملة أنّه أخمَلَ في زمانه خمسمائة شاعر كلُّهم مجيد.
المترجم له شاميُّ الأصل وُلد بقرية جاسم من قرى الجيدور من أعمال دمشق ، وإنَّ أباه كان يُقال له : ندوس (٣) العطّار فجعلوه أوساً ، وفي دائرة المعارف الإسلامية (٤) أنَّ المترجم هو الذي بدّله وكان أبوه نصرانيّا.
نشأ المترجم بمصر وفي حداثته كان يسقي الماء في المسجد الجامع ، ثمّ جالس الأدباء فأخذ عنهم وتعلّم منهم ، وكان فطناً فهماً ، وكان يحبُّ الشعر ، فلم يزل يعانيه حتى قال الشعر وأجاد ، وشاع ذكره ، وسار شعره ، وبلغ المعتصم خبره ، فحمله إليه وهو بِسُرَّ مَن رأى ، فعمل أبو تمام فيه قصائد عدَّة وأجازه المعتصم وقدَّمه على شعراء وقته ، وقدم إلى بغداد ، وتجوَّل في العراق وإيران ، ورآه محمد بن قدامة بقزوين ، فجالس بها الأدباء وعاشر العلماء ، وكان موصوفاً بالظرف وحسن الأخلاق وكرم النفس.
قال الحسين بن إسحاق : قلت للبحتري : الناس يزعمون أنّك أشعر من أبي تمام. فقال : والله ما ينفعني هذا القول ولا يضرّ أبا تمّام ، والله ما أكلت الخبز إلاّ به ، ولودَدتُ أنّ الأمر كما قالوا ، ولكنّي والله تابعٌ له لائذٌ به آخذٌ منه ، نسيمي يركُد عند
__________________
(١) مرآة الجنان : ٢ / ١٠٢ [وفيات سنة ٢٣١ ه]. (المؤلف)
(٢) معاهد التنصيص : ١ / ٣٨ رقم ٦.
(٣) لهذا الاسم قراءات مختلفة : تدوس. تدرس. ندوس. ثدوس. ثادوس. ثيودوس. (المؤلف)
(٤) دائرة المعارف الإسلامية : ١ / ٣٢٠.