فنحن نجوّز ذلك لا على أنّه لضرب الأوّل ، ولكن لفعل محذوف دلّ عليه الأوّل ، كأن سائلا سأل : من ضرب؟ فقال : عمرا ، أي ضرب عمرا.
قال الحديثي : ولقائل أن يختار الثالث ويقول : العامّ لا يقدّر إلّا للذي يلي «إلّا» منهما ، فإنّ العامّ إنّما يقدّر للمستثنى المفرّغ لا لغيره والمستثنى المفرّغ هو الذي يلي «إلّا» فلا يحصل اللّبس أصلا. فثبت أنّ جواب شرح المنظومة لا يتمّ بما ذكره في الأمالي أيضا ، نعم يتمّ بما ذكره ابن مالك وهو أنّ الاستثناء في حكم جملة مستأنفة ، لأنّ معنى «جاء القوم إلّا زيدا» : ما منهم زيد ، وهذا يقتضي ألّا يعمل ما قبل «إلّا» فيما بعدها لما لاح أنّ «إلّا» بمثابة «ما» ، و «إلّا» في صورة مندوحة عنه ، وهي إعمال ما قبل إلّا في المستثنى المنفي على أصله ، وفيما بعد إلّا المفرّغة وهو المستثنى المفرّغ تحقيقا أو تقديرا نحو : «ما جاءني أحد إلّا زيد» ، على البدل ، وفيما بعد المقدّمة على المستثنى منه ، والمتوسطة بينه وبين صفته الإضمار إن قدّر العامل بعد إلّا في الصور لكثرة وقوعها ، نحو : «ما قاموا إلّا زيدا» و «ما قام إلّا زيد» و «ما جاء إلّا زيدا القوم» و «ما مررت بأحد إلّا زيدا خير من عمرو» ، وألّا يجوز «ما ضرب إلّا زيد عمرا» ، ولا «... إلّا عمرا زيد» لأنّه إن كانا شيئين فهو ممتنع ، وإن كان المستثنى ما يلي إلّا دون الأخير يكون ما قبله عاملا فيما بعده في غير الصور الأربع ، وهو ممتنع. وما ورد قدّر عامل الثاني ، فتقدير «ما ضرب إلّا عمرا زيد» ضرب زيد.
وذهب صاحب (المفتاح) (١) إلى جواز التقديم حيث قال في فصل القصر : «ولك أن تقول في الأوّل : «ما ضرب إلّا عمرا زيد» وفي الثاني : «ما ضرب إلّا زيد عمرا» فتقدّم وتؤخّر ، إلّا أنّ هذا التقديم والتأخير لمّا استلزم قصر الصفة قبل تمامها على الموصوف قلّ دوره في الاستعمال ، لأنّ الصّفة المقصورة على عمرو في قولنا : «ما ضرب زيد إلّا عمرا» هي ضرب زيد لا الضرب مطلقا ، والصفة المقصورة على زيد في قولنا : «ما ضرب عمرا إلّا زيد هي الضرب لعمرو» (٢). قال الحديثي على صاحب المفتاح : إنّ حكمه بجواز التّقديم إن أثبت بوروده في الاستعمال ، فهو غير مستقيم بأنّ ما ورد في الاستعمال يحتمل أن يكون الثاني فيه معمولا لعامل مقدّر ،
__________________
(١) هو أبو يعقوب السكاكي : يوسف بن أبي بكر بن محمد ، علّامة ، إمام في العربية والمعاني والأدب والعروض والشعر ، صنّف : مفتاح العلوم في اثني عشر علما. (ترجمته في معجم الأدباء ٥ / ٦٤٧).
(٢) انظر مفتاح العلوم (ص ١٦١).