وكان السلطان أبيض اللون قد وخطه الشيب ، وفي عينيه حول ، وبرجله اليمنى ريح شوكة تنغص عليه أحيانا وتؤلمه ، وكان لا يكاد يمس بها الأرض ولا يمشي إلّا متكئا على أحدا ومتوكئا على شيء ، ولا يصل إلى الأرض إلّا أطراف أصابعه ، وكان شديد البأس جيد الرأي ، يتولى الأمور بنفسه ، ويجود لخواصه ، وكان مهابا عند أهل مملكته ، بحيث أنّ الأمراء إذا كانوا عنده بالخدمة لا يجسر أحد أن يكلم آخر كلمة واحدة ، ولا يلتفت بعضهم إلى بعض خوفا منه ، ولا يمكن واحدا منهم أن يذهب إلى بيت أحد البتة ، لا في وليمة ولا غيرها ، فإن فعل أحد منهم شيئا من ذلك قبض عليه وأخرجه من يومه منفيا ، وكان مسدّدا عارفا بأمور رعيته وأحوال مملكته ، وأبطل نيابة السلطنة من ديار مصر من سنة سبع وعشرين وسبعمائة ، وأبطل الوزارة وصار يتحدّث بنفسه في الجليل من الأمور والحقير ، ويستجلب خاطر كل أحد من صغير وكبير لا سيما حواشيه ، فلذلك عظمت حاشية المملكة وأتباع السلطنة وتخوّلوا في النعم الجزيلة ، حتى الخولة والكلابزية والأسرى من الأرمن والفرنج ، وأعطى البازدارية الأخباز في الحلقة ، فمنهم من كان إقطاعه الألف دينار في السنة ، وزوّج عدّة منهم بجواريه ، وأفنى خلقا كثيرا من الأمراء بلغ عددهم نحو المائتي أمير ، وكان إذا كبر أحد من أمرائه قبض عليه وسلبه نعمته ، وأقام بدله صغيرا من مماليكه إلى أن يكبر ، فيمسكه ويقيم غيره ، ليأمن بذلك شرّهم. وكان كثير التخيل حازما ، حتى أنه إذا تخيل من ابنه قتله ، وفي آخر أيامه شره في جمع المال ، فصادر كثيرا من الدواوين والولاة وغيرهم ، ورمى البضائع على التجار حتى خاف كل من له مال ، وكان مخادعا كثير الحيل ، لا يقف عند قول ولا يوف بعهد ولا يبرّ في يمين ، وكان محبا للعمارة ، وعمر عدّة أماكن منها : جامع قلعة الجبل ، وهدمه مرّتين ، وعمر القصر الأبلق بالقلعة ومعظم الأماكن التي بالقلعة ، وعمر المجرى الذي ينقل الماء عليه من بحر النيل إلى القلعة على السور ، وعمر الميدان تحت القلعة ومناظر الميدان على النيل ، وعمر قناطر السباع على الخليج ومناظر سرياقوس والخانقاه بسرياقوس ، وحفر الخليج الناصريّ بظاهر القاهرة ، وعمر الجامع الجديد على شاطيء النيل بظاهر مصر ، وجدّد جامع الفيلة الذي بالرصد ، والمدرسة الناصرية بين القصرين من القاهرة ، وغير ذلك مما يرد في موضعه من هذا الكتاب ، وما زال يعمر منذ عاد إلى ولاية الملك في المرّة الثالثة إلى أن مات ، وبلغ مصروف العمارة في كل يوم من أيامه سبعة آلاف درهم فضة ، عنها ثلاثمائة وخمسون دينارا ، سوى من يسخره من المقيدين وغيرهم في عمل ما يعمره ، وحفر عدّة من الخلجانات والترع ، وأقام الجسور بالبلاد حتى أنه كان ينصرف من الأخباز على ذلك ربع متحصل الإقطاعات ، وحفر خليج الإسكندرية وبحر المحلة مرّتين ، وبحر اللبينيّ بالجيزة ، وعمل جسر شيبين ، وعمل جسر أحباس بالشرقية والقليوبية مدّة ثلاث سنين متوالية ، فلم ينجع ، فأنشأه بنيانا ، بالطوب والجير ، وأنفق فيه أموالا عظيمة ، وراك ديار مصر وبلاد الشام ، وعرض الجيش بعد حضوره في سنة