قال : وسمعت السلطان يقول لولا أن يقال ملك مصر عجز عن إتمام بناء بناه لتركت بناء هذا الجامع من كثرة ما صرف عليه ، وفي هذا الجامع عجائب من البنيان منها : أن ذراع إيوانه الكبير خمسة وستون ذراعا في مثلها ، ويقال أنه أكبر من إيوان كسرى الذي بالمدائن من العراق بخمسة أذرع ، ومنه القبلة العظيمة التي لم يبن بديار مصر والشام والعراق والمغرب واليمن مثلها ، ومنها المنبر الرخام الذي لا نظير له ، ومنها البوّابة العظيمة ، ومنها المدارس الأربع التي بدور قاعة الجامع إلى غير ذلك. وكان السلطان قد عزم على أن يبني أربع مناير يؤذن عليها ، فتمت ثلاث مناير إلى أن كان يوم السبت سادس شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وستين وسبعمائة ، فسقطت المنارة التي على الباب ، فهلك تحتها نحو ثلاثمائة نفس من الأيتام الذين كانوا قد رتبوا بمكتب السبيل الذي هناك ومن غير الأيتام ، وسلّم من الأيتام ستة أطفال ، فأبطل السلطان بناء هذه المنارة وبناء نظيرتها ، وتأخر هناك منارتان هما قائمتان إلى اليوم ، ولما سقطت المنارة المذكورة لهجت عامّة مصر والقاهرة بأن ذلك منذر بزوال الدولة ، فقال الشيخ بهاء الدين أبو حامد أحمد بن عليّ بن محمد السبكيّ في سقوطها :
أبشر فسعدك يا سلطان مصر أتى |
|
بشيره بمقال سار كالمثل |
إنّ المنارة لم تسقط لمنقصة |
|
لكن لسرّ خفيّ قد تبيّن لي |
من تحتها قرىء القرآن فاستمعت |
|
فالوجد في الحال أدّها إلى الميل |
لو أنزل الله قرآنا على جبل |
|
تصدّعت رأسه من شدّة الوجل |
تلك الحجارة لم تنقضّ بل هبطت |
|
من خشية الله لا للضعف والخلل |
وغاب سلطانها فاستوحشت ورمت |
|
بنفسها لجوى في القلب مشتعل |
فالحمد لله حظّ العين زال بما |
|
قد كان قدّره الرحمن في الأزل |
لا يعتري البؤس بعد اليوم مدرسة |
|
شيدت بنيانها بالعلم والعمل |
ودمت حتى ترى الدنيا بها امتلأت |
|
علما فليس بمصر غير مشتغل |
فاتفق قتل السلطان بعد سقوط المنارة بثلاثة وثلاثين يوما ، ومات السلطان قبل أن يتم رخام هذا الجامع ، فأتمه من بعده الطواشي بشير الجمدار ، وكان قد جعل السلطان على هذا الجامع أوقافا عظيمة جدّا ، فلم يترك منها إلّا شيء يسير وأقطع أكثر البلاد التي وقفت عليه بديار مصر والشام لجماعة من الأمراء وغيرهم ، وصار هذا الجامع ضدّا لقلعة الجبل ، قلما تكون فتنة بين أهل الدولة إلّا ويصعد عدّة من الأمراء وغيرهم إلى أعلاه ويصير الرمي منه على القلعة ، فلم يحتمل ذلك الملك الظاهر برقوق وأمر فهدمت الدرج التي كان يصعد منها إلى المنارتين والبيوت التي كان يسكنها الفقهاء ، ويتوصل من هذه الدرج إلى السطح الذي كان يرمى منه على القلعة ، وهدمت البسطة العظيمة والدرج التي كانت بجانبي هذه البسطة التي كانت قدّام باب الجامع ، حتى لا يمكن الصعود إلى الجامع ، وسدّ من وراء الباب النحاس الذي لم يعمل فيما عهد باب مثله ، وفتح شباك من شبابيك أحد مدارس هذا الجامع