ونحن ونقول ايه؟ إلى أن قال : بس انزلوا ما بقي عليّ همّ ، ما بقي يهمكم كبير شيء ، قلنا كيف؟ قال ما بقي إلّا البتراء ورأسين انزلوا ، فما عليكم منهما. قلنا كذا عليك لعنة الله يا عدوّ الله لا نزلنا للصبح فالمغرور من تغرّه. وصحنا بالقاضي أبي حفص القيم فأوقد الشمعة ولبس صباغات الخطيب خوفا على رجليه ، وجاء فنزلنا في الضوء وطلعنا المئذنة فنمنا إلى بكرة ، وتفرّق شملنا بعد تلك الليلة ، وجمع القاضي القيم عياله ثاني يوم وأدخلوا عصيا تحت المنبر وسعفا وشالوا الحصر فلم يظهر لهم شيء ، وبلغ الحديث والي القرافة ابن شعلة الكتاميّ ، فأخذ الحاوي فلم يزل به حتى جمع ما قدر عليه وقال : ما أخليه إلّا إلى السلطان ، وكان الوزير إذ ذاك يانس الأرمنيّ.
وهذه القضية تشبه قضية جرت لجعفر بن الفضل بن الفرات وزير مصر المعروف بابن جرابة ، وذلك أنه كان يهوى النظر إلى الحيات والأفاعي والعقارب وأم أربعة وأربعين وما يجري هذا المجرى من الحشرات ، وكان في داره قاعة لطيفة مرخمة فيها سلل الحيات ولها قيم فرّاش حاو من الحواة ، ومعه مستخدمون برسم الخدمة ونقل السلال وحطها ، وكان كلّ حاو في مصر وأعمالها يصيد ما يقدر عليه من الحيات ، ويتباهون في ذوات العجب من أجناسها ، وفي الكبار وفي الغريبة المنظر ، وكان الوزير يثبهم على ذلك أو في ثواب ، ويبذل لهم الجمل حتى يجتهدوا في تحصيلها ، وكان له وقت يجلس فيه على دكه مرتفعة ويدخل المستخدمون والحواة فيخرجون ما في السلل ويطرحونه على ذلك الرخام ، ويحرّشون بين الهوام وهو يتعجب من ذلك ويستحسنه ، فلما كان ذات يوم أنفذ رقعة إلى الشيخ الجليل ابن المدبر الكاتب وكان من أعيان كتاب أيامه وديوانه ، وكان عزيزا عنده ، وكان يسكن إلى جوار دار ابن الفرات يقول له فيها : نشعر الشيخ الجليل أدام الله سلامته ، أنه لما كان البارحة عرض علينا الحواة الحشرات الجاري بها العادات ، انساب إلى داره منها الحية البتراء ، وذات القرنين ، والعقربان الكبير ، وأبو صوفة ، وما حصلوا لنا إلّا بعد عناء ومشقة وبجملة بذلناها للحواة ، ونحن نأمر الشيخ وفقه الله بالتقدّم إلى حاشيته وصبيته بصون ما وجد منها إلى أن تنفذ الحواة لأخذها وردّها إلى سللها ، فلما وقف ابن المدبر على الرقعة قلبها وكتب في ذيلها ، أتاني أمر سيدنا الوزير خلد الله نعمته وحرس مدّته بما أشار إليه في أمر الحشرات ، والذي يعتمد عليه في ذلك أن الطلاق يلزمه ثلاثا إن بات هو وأحد من أهله في الدار والسلام.
وفي سنة ست عشرة وخمسائة أمر الوزير أبو عبد الله محمد بن فاتك المنعوت بالأجلّ المأمون البطائحيّ ، وكيله أبا البركات محمد بن عثمان ، برمّ شعث هذا الجامع وأن يعمر بجانبه طاحونا للسبيل ، ويبتاع لها الدواب ويتخير من الصالحين الساكنين بالقرافة من يجعله أمينا عليها ، ويطلق له ما يكفيه مع علف الدواب وجميع المؤن ، ويشترط عليه أن يواسي بين الضعفاء ويحمل عنهم كلفة طحن أقواتهم ، ويؤدّي الأمانة فيها ، ولم يزل هذا