هذا وقد كان المأمون عبد الله بن هارون الرشيد سابع خلفاء بني العباس ببغداد ، لما شغف بالعلوم القديمة. بعث إلى بلاد الروم من عرّب له كتب الفلاسفة وأتاه بها في أعوام بضع عشرة سنة ومائتين من سني الهجرة ، فانتشرت مذاهب الفلاسفة في الناس ، واشتهرت كتبهم بعامّة الأمصار ، وأقبلت المعتزلة والقرامطة والجهمية وغيرهم عليها ، وأكثروا من النظر فيها والتصفح لها ، فانجرّ على الإسلام وأهله من علوم الفلاسفة ما لا يوصف من البلاء والمحنة في الدين ، وعظم بالفلسفة ضلال أهل البدع وزادتهم كفرا إلى كفرهم. فلما قامت دولة بني بويه ببغداد في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة واستمرّوا إلى سنة سبع وثلاثين وأربعمائة ، وأظهروا مذهب التشيع ، قويت بهم الشيعة وكتبوا على أبواب المساجد في سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة لعن الله معاوية بن أبي سفيان ، ولعن من أغضب فاطمة ، ومن منع الحسن أن يدفن عند جدّه ، ومن نفى أبا ذر الغفاريّ ، ومن أخرج العباس من الشورى. فلما كان الليل حكه بعض الناس ، فأشار الوزير المهلبيّ أن يكتب بإذن معز الدولة ، لعن الله الظالمين لأهل البيت ، ولا يذكر أحد في اللعن غير معاوية. ففعل ذلك وكثرت ببغداد الفتن بين الشيعة والسنية ، وجهر الشيعة في الأذان بحيّ على خير العمل في الكرخ ، وفشا مذهب الاعتزال بالعراق وخراسان وما وراء النهر ، وذهب إليه جماعة من مشاهير الفقهاء ، وقوى مع ذلك أمر الخلفاء الفاطميين بأفريقية وبلاد المغرب ، وجهروا بمذهب الإسماعيلية وبثوا دعاتهم بأرض مصر ، فاستجاب لهم خلق كثير من أهلها ، ثم ملكوها سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وبعثوا بعساكرهم إلى الشام فانتشرت مذاهب الرافضة في عامّة بلاد المغرب ومصر والشام وديار بكر والكوفة والبصرة وبغداد ، وجميع العراق ، وبلاد خراسان ، وما وراء النهر مع بلاد الحجاز واليمن والبحرين ، وكانت بينهم وبين أهل السنة من الفتن والحروب والمقاتل ما لا يمكن حصره لكثرته ، واشتهرت مذاهب الفرق من القدرية والجهمية والمعتزلة والكرّامية والخوارج والروافض والقرامطة والباطنية ، حتى ملأت الأرض ، وما منهم إلّا من نظر في الفلسفة وسلك من طرقها ما وقع عليه اختياره ، فلم تبق مصر من الأمصار ولا قطر من الأقطار ، إلا وفيه طوائف كثيرة ممن ذكرنا.
وكان أبو الحسن عليّ بن إسماعيل الأشعريّ قد أخذ عن أبي عليّ محمد بن عبد الوهاب الجبائيّ ، ولازمه عدّة أعوام ، ثم بدا له فترك مذهب الاعتزال وسلك طريق أبي محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن كلاب ، ونسج على قوانينه في الصفات والقدر ، وقال بالفاعل المختار ، وترك القول بالتحسين والتقبيح العقليين ، وما قيل في مسائل الصلاح والأصلح ، وأثبت أن العقل لا يوجب المعارف قبل الشرع ، وأن العلوم وإن حصلت بالعقل فلا تجب به ، ولا يجب البحث عنها إلّا بالسمع ، وأن الله تعالى لا يجب عليه شيء ، وأن النبوّات من الجائزات العقلية والواجبات السمعية إلى غير ذلك من مسائله التي هي موضوع أصول الدين.