الأوّل سنة ست وعشرين ، ونودي في القدس بخروج المسلمين منه وتسليمه إلى الفرنج ، فكان أمرا مهولا من شدّة البكاء والصراخ ، وخرجوا بأجمعهم فصاروا إلى مخيم الكامل وأذنوا على بابه في غير وقت الأذان ، فشق عليه ذلك وأخذ منهم الستور وقناديل الفضة والآلات وزجرهم ، وقيل لهم امضوا حيث شئتم ، فعظم على المسلمين هذا وكثر الإنكار على الملك الكامل وشنعت المقالة فيه ، وعاد الأنبرطور إلى بلاده بعد ما دخل القدس ، وكان مسيره في آخر جمادى الآخرة سنة ست وعشرين. وسيّر الكامل إلى الآفاق بتسكين قلوب المسلمين وانزعاجهم لأخذ الفرنج القدس ، ورحل من تل العجوز يريد دمشق والأشرف على محاصرتها ، فجدّ في القتال واشتدّ الأمر على الناصر إلى أن ترامى في الليل على الملك الكامل ، فأكرمه وأعاده إلى قلعة دمشق ، وبعث من تسلمها منه وعوّضه عن دمشق الكرك والشوبك والصلت والبلقاء والأغوار ونابلس وأعمال القدس ، ثم ترك الشوبك للكامل مع عدّة مما ذكر ، وتسلم الكامل دمشق في أوّل شعبان وأعطاها للأشرف ، وأخذ منه ما معه من بلاد الشرق ، وهي حران (١) والرّها (٢) وسروج وغير ذلك ، ثم سار الكامل فأخذ حماه وتوجه منها فقطع الفرات ، ثم سار إلى جعبر والرقة ودخل حران والرّها ورتب أمورها ، وأتته الرسل من ماردين وآمد والموصل وأربل وغير ذلك ، وأقيمت له الخطبة بماردين ، وبعث يستدعي عساكر الشام لقتال الخوارزميّ وهو بخلاط ، ثم رحل الكامل من حرّان لأمور حدثت وسار إلى مصر فدخلها في شهر رجب سنة سبع وعشرين ، وقد تغير على ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب وخلعه من ولاية العهد ، وعهد إلى ابنه الملك العادل أبي بكر ، ثم سار إلى الإسكندرية في سنة ثمان وعشرين ، ثم عاد إلى مصر وحفر بحر النيل فيما بين المقياس وبرّ مصر ، وعمل فيه بنفسه واستعمل فيه الملوك من أهله والأمراء والجند ، فصار الماء دائما فيما بين مصر والمقياس ، وانكشف البرّ فيما بين المقياس والجيزة في أيام احتراق النيل ، وخرج من القاهرة إلى بلاد الشام في آخر جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين ، واستخلف على ديار مصر ابنه العادل وأسكنه قلعة الجبل ، وأخذ الصالح معه فدخل دمشق من طريق الكرك ، وخرج منها لقتال التتر ، وجعل ابنه الصالح على مقدّمته ، فسار إلى حران فرحل التتر عن خلاط ، ثم رحل إلى الرها وسار إلى آمد ونازلها حتى أخذها ، وأنعم على ابنه الصالح بحصن كيفا ، وبعثه إليه وعاد إلى مصر في سنة ثلاثين ، فقبض على عدّة من الأمراء.
ثم خرج في سنة إحدى وثلاثين إلى دمشق وسار منها ودخل الدربند ، وقد أعجبته كثرة عساكره ، فإنه اجتمع معه ثمانية عشر طلبا لثمانية عشر ملكا. وقال هذه العساكر لم تجتمع لأحد من ملوك الإسلام ، ونزل على النهر الأزرق بأوّل بلد الروم ، وقد نزلت عساكر الروم وأخذت عليه رأس الدربند ومنعوه فتحير لقلة الأقوات عنده ولاختلاف ملوك بني
__________________
(١) حرّان : مدينة عظيمة بينها وبين الرها يوم وبين الرّمة يومان على طريق الموصل الشام.
(٢) الرها : مدينة بالجزيرة بين الموصل والشام.