المارستان بهذه القبة تحت أيدي الخدّام ، وكانت العادة أنه إذا أمّر السلطان أحدا من أمراء مصر والشام فإنه ينزل من قلعة الجبل وعليه التشريف والشر بوش وتوقد له القاهرة ، فيمرّ إلى المدرسة الصالحية بين القصرين ، وعمل ذلك من عهد سلطنة المعز أيبك ومن بعده ، فنقل ذلك إلى القبة المنصورية وصار الأمير يحلف عند القبر المذكور ، ويحضر تحليفه صاحب الحجاب ، وتمدّ أسمطة جليلة بهذه القبة ، ثم ينصرف الأمير ويجلس له في طول شارع القاهرة إلى القلعة أهل الأغاني لتزفه في نزوله وصعوده ، وكان هذا من جملة منتزهات القاهرة ، وقد بطل ذلك منذ انقرضت دولة بني قلاون. ومن جملة أخبار هذه القبة : أنه لما كان في يوم الخميس مستهل المحرّم سنة تسعين وستمائة ، بعث الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاون بجملة مال تصدّق به في هذه القبة ، ثم أمر بنقل أبيه من القلعة ، فخرج سائر الأمراء ونائب السلطنة الأمير بيدرا بدر الدين ، والوزير الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس التنوخيّ ، وحضروا بعد صلاة العشاء الآخرة ومشوا بأجمعهم قدّام تابوت الملك المنصور إلى الجامع الأزهر ، وحضر فيه القضاة ومشايخ الصوفية ، فتقدّم قاضي القضاة تقيّ الدين بن دقيق العيد وصلّى على الجنازة ، وخرج الجميع أمامها إلى القبة المنصورية حتى دفن فيها ، وذلك في ليلة الجمعة ثاني المحرّم ، وقيل عاشره ، ثم عاد الوزير والنائب من الدهليز خارج القاهرة إلى القبة المنصورية لعمل مجتمع بسبب قراءة ختمة كريمة في ليلة الجمعة ثامن عشري صفر منها ، وحضر المشايخ والقرّاء والقضاة في جمع موفور ، وفرّق في الفقراء صدقات جزيلة ، ومدّت أسمطة كثيرة ، وتفرّقت الناس أطعمتها حتى امتلأت الأيدي بها ، وكانت إحدى الليالي الغرّ ، كثر الدعاء فيها للسلطان وعساكر الإسلام بالنصر على أعداء الملة ، وحضر الملك الأشرف بكرة يوم الجمعة إلى القبة المنصورية وفرّق مالا كثيرا ، وكان الملك الأشرف قد برز يريد المسير لجهاد الفرنج وأخذ مدينة عكا ، فسار لذلك وعاد في العشرين من شعبان وقد فتح الله له مدينة عكا عنوة بالسيف وخرّب أسوارها ، وكان عبوره إلى القاهرة من باب النصر وقد زينت القاهرة زينة عظيمة ، فعند ما حاذى باب المارستان نزل إلى القبة المنصورية وقد غصت بالقضاة والأعيان والقرّاء والمشايخ والفقهاء ، فتلقوة كلهم بالدعاء حتى جلس فأخذ القرّاء في القراءة ، وقام نجم الدين محمد بن فتح الدين محمد بن عبد الله بن مهلهل بن غياث بن نصر المعروف بابن العنبريّ الواعظ ، وصعد منبرا نصب له فجلس عليه وافتتح ينشد قصيدة تشتمل على ذكر الجهاد وما فيه من الأجر ، فلم يسعد فيها بحظ ، وذلك أنه افتتحها بقوله :
زرو الديك وقف على قبريهما |
|
فكأنني بك قد نقلت إليهما |
فعند ما سمع الأشرف هذا البيت تطير منه ونهض قائما وهو يسب الأمير بيدرا نائب السلطنة لشدّة حنقه وقال : ما وجد هذا شيئا يقوله سوى هذا البيت فاخذ بيدرا في تسكين حنقه والاعتذار له عن ابن العنبريّ ، بأنه قد انفرد في هذا الوقت بحسن الوعظ ولا نظير له