البلدان ، أن يجعل المصلي مغرب الصيف عن يمينه ، ومشرق الشتاء عن يساره ، وما بينهما قبلته. ويكون أوسط البلاد الشامية التي هي حدّ المدينة النبوية قبلة المصلي بها ، أن يجعل مشرق الاعتدال عن يساره ، ومغرب الاعتدال عن يمينه ، وما بينهما قبلة له ، فهذا أوضح استدلال على أن الحديث خاص بأهل المدينة ، وما على سمتها من البلاد الشامية ، وما وراءها من البلدان المسامتة لها.
وهكذا أهل اليمن وما على سمت اليمن من البلاد ، فإن القبلة واقعة فيما هنالك بين المشرق والمغرب لكن على عكس وقوعها في البلاد الشامية ، فإنه تصير مشارق الكواكب في البلاد الشامية التي على يسار المصلي ، واقعة عن يمين المصلي في بلاد اليمن ، وكذلك كل ما كان من المغرب عن يمين المصلي بالشام ، فإنه ينقلب عن يسار المصلي باليمن ، وكلّ من قام ببلاد اليمن مستقبلا الكعبة فإنه يتوجه إلى بلاد الشام فيما بين المشرق والمغرب ، وهذه الأقطار سكانها هم المخاطبون بهذا الحديث ، وحكمه لازم لهم ، وهو خاص بهم دون من سواهم من أهل الأقطار الأخر ، ومن أجل حمل هذا الحديث على العموم كان السبب في اختلاف محاريب مصر.
السبب الثاني : في اختلاف محاريب مصر ، أن الديار المصرية افتتحها المسلمون كانت خاصة بالقبط والروم مشحونة بهم ، ونزل الصحابة رضياللهعنهم من أرض مصر في موضع الفسطاط الذي يعرف اليوم بمدينة مصر وبالإسكندرية ، وتركوا سائر قرى مصر بأيدي القبط ، كما تقدّم في موضعه من هذا الكتاب ، ولم يسكن أحد من المسلمين بالقرى ، وإنما كانت رابطة تخرج إلى الصعيد حتى إذا جاء أوان الربيع انتشر الأتباع في القرى لرعي الدواب ، ومعهم طوائف من السادات ، ومع ذلك فكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضياللهعنه ينهي الجند عن الزرع ، ويبعث إلى أمراء الأجناد بإعطاء الرعية أعطياتهم وأرزاق عيالهم ، وينهاهم عن الزرع. روى الإمام أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن الحكم في كتاب فتوح مصر ، من طريق ابن وهب ، عن حيوة بن شريح ، عن بكر بن عمر ، وعن عبد الله بن هبيرة : أن عمر بن الخطاب أمر بناذره أن يخرج إلى أمراء الأجناد يتقدّمون إلى الرعية ، أنّ عطاءهم قائم ، وأنّ أرزاق عيالهم سابل ، فلا يزرعون ولا يزارعون. قال ابن وهب : وأخبرني شريك بن عبد الرحمن المراديّ قال : بلغنا أن شريك بن سميّ الغطفانيّ أتى إلى عمرو بن العاص فقال : إنكم لا تعطونا ما يحسبنا ، أفتأذن لي بالزرع؟ فقال له عمرو : ما أقدر على ذلك. فزرع شريك من غير إذن عمرو ، فلما بلغ ذلك عمرا كتب إلى عمر بن الخطاب يخبره أن شريك بن سميّ الغطفانيّ حرث بأرض مصر ، فكتب إليه عمر أن ابعث إليّ به ، فلما انتهى كتاب عمر إلى عمرو ، أقرأه شريكا. فقال شريك لعمرو : وقتلتني يا عمرو. فقال عمرو : ما أنا بالذي قتلتك ، أنت صنعت هذا بنفسك. فقال له : إذا كان هذا من رأيك فأذن لي بالخروج من غير كتاب ، ولك عليّ عهد الله أن أجعل يدي في يده ، فأذن له