بسماسم سرياقوس ، أنشأها السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون ، وذلك أنه لما بنى الميدان والأحواش في بركة الجبّ ، كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب عند ذكر بركة الجب ، اتفق أنه ركب على عادته للصيد هناك ، فأخذه ألم عظيم في جوفه كاد يأتي عليه وهو يتجلد ويكتم ما به حتى عجز ، فنزل عن الفرس والألم يتزايد به ، فنذر لله إن عافاه الله ليبنين في هذا الموضع موضعا يعبد الله تعالى فيه ، فخف عنه ما يجده ، وركب فقضى نهمته من الصيد وعاد إلى قلعة الجبل ، فلزم الفراش مدّة أيام ثم عوفي ، فركب بنفسه ومعه عدّة من المهندسين ، واختط على قدر ميل من ناحية سرياقوس هذه الخانقاه ، وجعل فيها مائة خلوة لمائة صوفيّ ، وبنى بجانبها مسجدا تقام به الجمعة ، وبنى بها حمّاما ومطبخا ، وكان ذلك في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة. فلما كانت سنة خمس وعشرين وسبعمائة ، كمل ما أراد من بنائها ، وخرج إليها بنفسه ومعه الأمراء والقضاة ومشايخ الخوانك ، ومدّت هناك أسمطة عظيمة بداخل الخانقاه في يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة ، وتصدّر قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعيّ لإسماع الحديث النبويّ ، وقرأ عليه ابنه عز الدين عبد العزيز عشرين حديثا تساعيا ، وسمع السلطان ذلك ، وكان جمعا موفورا ، وأجاز قاضي القضاة الملك الناصر ومن حضر برواية ذلك. وجميع ما يجوز له روايته ، وعند ما انقضى مجلس السماع قرّر السلطان في مشيخة هذه الخانكاه الشيخ مجد الدين موسى بن أحمد بن محمود الأقصرائي ، ولقّبه بشيخ الشيوخ ، فصار يقال له ذلك ولكلّ من ولي بعده ، وكان قبل ذلك لا يلقب بشيخ الشيوخ إلّا شيخ خانقاه سعيد السعداء ، وأحضرت التشاريف السلطانية فخلع على قاضي القضاة بدر الدين ، وعلى ولده عز الدين ، وعلى قاضي القضاة المالكية ، وعلى الشيخ مجد الدين أبي حامد موسى بن أحمد بن محمود الأقصرائي شيخ الشيوخ ، وعلى الشيخ علاء الدين القونويّ شيخ خاقناه سعيد السعداء ، وعلى الشيخ قوام الدين أبي محمد عبد المجيد بن أسعد بن محمد الشيرازيّ ، شيخ الصوفية بالجامع الجديد الناصريّ ، خارج مدينة مصر ، وعلى جماعة كثيرة. وخلع على سائر الأمراء وأرباب الوظائف ، وفرّق بها ستين ألف درهم فضة وعاد إلى قلعة الجبل ، فرغب الناس في السكنى حول هذه الخانقاه وبنو الدور والحوانيت والخانات ، حتى صارت بلدة كبيرة تعرف بخانقاه سرياقوس ، وتزايد الناس بها حتى أنشئ فيها سوى حمّام الخانقاه عدّة حمّامات ، وهي إلى اليوم بلدة عامرة ، ولا يؤخذ بها مكس البتة مما يباع من سائر الأصناف احتراما لمكان الخانقاه ، ويعمل هناك في يوم الجمعة سوق عظيم ترد الناس إليه من الأماكن البعيدة ، يباع فيه الخيل والجمال والحمير والبقر والغنم والدجاج والأوز وأصناف الغلات وأنواع الثياب وغير ذلك ، وكانت معاليم هذه الخانكاه من أسنى معلوم بديار مصر ، يصرف لكل صوفيّ في اليوم من لحم الضأن السليج رطل قد طبخ في طعم شهيّ ، ومن الخبز النقيّ أربعة أرطال ويصرف له في كل شهر مبلغ أربعين درهما فضة عنها