استقباله عن حدّ الزاويتين من أحد الجانبين ، فإنه يخرج في استقباله عن حدّ جهة الكعبة ، وهذا الحدّ في الجهة يتسع ببعد المدى ، ويضيق بقربه ، فأقصى ما ينتهي إليه اتساعه ربع دائرة الأفق ، وذلك أن الجهات المعتبرة في الاستقبال أربع ، المشرق والمغرب والجنوب والشمال ، فمن استقبل جهة من هذه الجهات كان أقصى ما ينتهي إليه سعة تلك الجهة ربع دائرة الأفق ، وإن انكشف لبصره أكثر من ذلك فلا عبرة به من أجل ضرورة تساوي الجهات ، فإنا لو فرضنا إنسانا وقف في مركز دائرة واستقبل جزأ من محيط الدائرة ، لكانت كلّ جهة من جهاته الأربع التي هي وراءه وأمامه ويمينه وشماله ، تقابل ربعا من أرباع الدائرة ، فتبين بما قلنا أن أقصى ما ينتهي إليه اتساع الجهة قدر ربع دائرة الأفق ، فأيّ جزء من أجزاء دائرة الأفق ، قصده الواقف بالاستقبال في بلد من البلدان ، كانت جهة ذلك الجزء المستقبل ربع دائرة الأفق ، وكان الخط الخارج من بين عيني الواقف إلى وسط تلك الجهة هو مقابلة العين ، ومنتهى الربع من جانبيه يمنة ويسرة هو منتهى الجهة التي قد استقبلها ، فما خرج من محاريب بلد من البلدان عن حدّ جهة الكعبة لا تصح الصلاة لذلك المحراب بوجه من الوجوه ، وما وقع في جهة الكعبة صحت الصلاة إليه عند من يرى أنّ الفرض في استقبال الكعبة إصابة جهتها ، وما وقع في مقابلة عين الكعبة فهو الأسدّ الأفضل الأولى عند الجمهور.
وإن أنصفت علمت أنه مهما وقع الاستقبال في مقابلة جهة الكعبة ، فإنه يكون سديدا ، وأقرب منه إلى الصواب ما وقع قريبا من مقابلة العين يمنة أو يسرة ، بخلاف ما وقع بعيدا عن مقابلة العين ، فإنه بعيد من الصواب ، ولعله هو الذي يجري فيه الخلاف بين علماء الشريعة والله أعلم.
وحيث تقرّر الحكم الشرعيّ بالأدلة السمعية والبراهين العقلية في هذه المسألة ، فاعلم أن المحاريب المخالفة لمحاريب الصحابة التي بقرافة مصر وبالوجه البحريّ من ديار مصر ، واقعة في آخر جهة الكعبة من مصر ، وخارجة عن حدّ الجهة ، وهي مع ذلك في مقابلة ما بين البجة والنوبة ، لا في مقابلة الكعبة ، فإنها منصوبة على موازاة خط نصف النهار ، ومحاريب الصحابة على موازاة مشرق الشتاء تجاه مطالع العقرب مع ميل يسير عنها إلى ناحية الجنوب ، فإذا جعلنا مشرق الشتاء المذكور مقابلة عين الكعبة لأهل مصر ، وفرضنا جهة ذلك الجزء ربع دائرة الأفق ، صار سمت المحاريب التي هي موازية لخط نصف النهار خارجا عن جهة الكعبة ، والذي يستقبلها في الصلاة يصلي إلى غير شطر المسجد الحرام ، وهو خطر عظيم فاحذره.
واعلم أن صعيد مصر واقع في جنوب مدينة مصر ، وقوص واقعة في شرقيّ الصعيد ، وفيما بين مهب ريح الجنوب والصبا من ديار مصر ، فالمتوجه من مدينة قوص إلى عيذاب