ولو كمفحص (١) قطاة ، بنى الله له بيتا في الجنة». فلما كان أوّل جمعة صلاها فيه أحمد بن طولون وفرغت الصلاة ، جلس محمد بن الربيع خارج المقصورة ، وقام المستملي وفتح باب المقصورة ، وجلس أحمد بن طولون ، ولم ينصرف والغلمان قيام وسائر الحجاب حتى فرغ المجلس ، فلما فرغ المجلس خرج إليه غلام بكيس فيه ألف دينار وقال : يقول لك الأمير نفعك الله بما علّمك ، وهذه لأبي طاهر ، يعني ابنه ، وتصدّق أحمد بن طولون بصدقات عظيمة فيه ، وعمل طعاما عظيما للفقراء والمساكين ، وكان يوما عظيما حسنا.
وراح أحمد بن طولون ونزل في الدار التي عملها فيه للإمارة ، وقد فرشت وعلّقت وحملت إليها الآلات والأواني وصناديق الأشربة وما شاكلها ، فنزل بها أحمد وجدّد طهره وغير ثيابه وخرج من بابها إلى المقصورة ، فركع وسجد شكرا لله تعالى على ما أعانه عليه من ذلك ويسره له. فلما أراد الانصراف ، خرج من المقصورة حتى أشرف على الفوّارة ، وخرج إلى باب الريح. فصعد النصرانيّ الذي بنى الجامع ووقف إلى جانب المركب النحاس وصاح : يا أحمد بن طولون ، يا أمير الأمان ، عبدك يريد الجائزة ويسأل الأمان ، أن لا يجري عليه مثل ما جرى في المرّة الأولى. فقال له أحمد بن طولون : انزل فقد أمّنك الله ، ولك الجائزة. فنزل وخلع عليه وأمر له بعشرة آلاف دينار ، وأجرى عليه الرزق الواسع إلى أن مات. وراح أحمد بن طولون في يوم الجمعة إلى الجامع ، فلما رقى الخطيب المنبر وخطب ، وهو أبو يعقوب البلخيّ ، دعا للمعتمد ولولده ، ونسي أن يدعو لأحمد بن طولون ، ونزل عن المنبر ، فأشار أحمد إلى نسيم الخادم أن أضربه خمسمائة سوط. فذكر الخطيب سهوه وهو على مراقي المنبر ، فعاد وقال : الحمد لله ، وصلّى الله على محمد (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه / ١١٥] اللهمّ وأصلح الأمير أبا العباس أحمد بن طولون مولى أمير المؤمنين. وزاد في الشكر والدعاء له بقدر الخطبة ثم نزل ، فنظر أحمد إلى نسيم أن أجعلها دنانير ، ووقف الخطيب على ما كان منه ، فحمد الله تعالى على سلامته وهنأه الناس بالسلامة.
ورأى أحمد بن طولون الصنّاع يبنون في الجامع عند العشاء ، وكان في شهر رمضان فقال : متى يشتري هؤلاء الضعفاء إفطارا لعيالهم وأولادهم ، اصرفوهم العصر. فصارت سنّة إلى اليوم بمصر. فلما فرغ شهر رمضان ، قيل له : قد انقضى شهر رمضان فيعودون إلى رسمهم. فقال : قد بلغني دعاؤهم ، وقد تبرّكت به ، وليس هذا مما يوفر العمل علينا. وفرغ منه في شهر رمضان سنة خمس وستين ومائتين ، وتقرّب الناس إلى ابن طولون بالصلاة فيه ، وألزم أولادهم كلهم صلاة الجمعة في فوّارة الجامع ، ثم يخرجون بعد الصلاة إلى مجلس
__________________
(١) المفحص : حفرة تحفرها الدجاجة أو القطاة في الأرض لتبيض وترقد فيها.