حماه ، نفسه يكون سعادة لمن يأتي من بعده ، فيعود ذلك توسعة لغيره بما حرمه هو ، ويجتمع للأمير أيده الله بما قد عزم على إسقاطه من المرافق في السنة بمصر دون غيرها مائة ألف دينار ، وإنّ فسخ ضياع الأمراء والمتقبلين في هذه السنة ، لأنها سنة ظمأ توجب الفسيخ ، زاد مال البلد وتوفر توفرا عظيما ينضاف إلى مال المرافق ، فيضبط به الأمير أيّده الله أمر دنياه ، وهذه طريقة أمور الدنيا وأحكام أمور الرياسة والسياسة ، وكلّ ما عدل الأمير أيده الله إليه من أمر غير هذا ، فهو مفسد لدنياه ، وهذا رأيي ، والأمير أيده الله على ما عساه يراه.
فقال له : ننظر في هذا إن شاء الله. وشغل قلبه كلامه ، فبات تلك الليلة بعد أن مضى أكثر الليل يفكر في كلام ابن دسومة ، فرأى في منامه رجلا من إخوانه الزهاد بطرسوس وهو يقول له : ليس ما أشار به عليك من استشرته في أمر الارتفاق (١) والفسخ (٢) برأي تحمد عاقبته ، فلا تقبله. ومن ترك شيئا لله عزوجل عوّضه الله عنه ، فأمض ما كنت عزمت عليه. فلما أصبح أنفذ الكتب إلى سائر الأعمال بذلك ، وتقدّم به في سائر الدواوين بإمضائه ، ودعا بابن دسومة فعرّفه بذلك ، فقال له : قد أشار عليك رجلان ، الواحد في اليقظة والآخر ميت في النوم ، وأنت إلى الحيّ أقرب وبضمانه أوثق. فقال : دعنا من هذا ، فلست أقبل منك. وركب في غد ذلك اليوم إلى نحو الصعيد ، فلما أمعن في الصحراء ساخت في الأرض يد فرس بعض غلمانه ، وهو رمل ، فسقط الغلام في الرمل ، فإذا بفتق ، ففتح فأصيب فيه من المال ما كان مقداره ألف ألف دينار ، وهو الكنز الذي شاع خبره ، وكتب به إلى العراق أحمد بن طولون بخير المعتمد به ويستأذنه فيما يصرفه فيه من وجوه البرّ وغيرها ، فبنى منه المارستان ، ثم أصاب بعده في الجبل مالا عظيما ، فبنى منه الجامع ووقف جميع ما بقي من المال في الصدقات ، وكانت صدقاته ومعروفه لا تحصى كثرة. ولما انصرف من الصحراء وحمل المال أحضر ابن دسومة وأراه المال وقال له : بئس الصاحب والمستشار أنت ، هذا أوّل بركة مشورة الميت في النوم ، ولو لا أنني أمنتك لضربت عنقك ، وتغيّر عليه وسقط محله عنده ، ورفع إليه بعد ذلك أنه قد أجحف بالناس وألزمهم أشياء ضجوا منها ، فقبض عليه وأخذ ماله وحبسه ، فمات في حبسه. وكان ابن دسومة واسع الحيلة بخيل الكف زاهدا في شكر الشاكرين ، لا يهش إلى شيء من أعمال البرّ. وكان أحمد بن طولون من أهل القرآن ، إذا جرت منه إساءة استغفر وتضرّع.
وقال ابن عبد الظاهر : سمعت غير واحد يقول إنه لما فرغ أحمد بن طولون من بناء هذا الجامع ، أسرّ للناس بسماع ما يقوله الناس فيه من العيوب. فقال رجل : محرابه صغير ،
__________________
(١) الارتفاق : الانتفاع.
(٢) الفسخ : النقض.