فبعث لكشف الخبر ، فلما بلغه ما وقع انزعج انزعاجا عظيما وغضب من تجري العامّة وإقدامهم على ذلك بغير أمره ، وأمر الأمير أيدغمش أميراخور أن يركب بجماعة الأوشاقية ويتدارك هذا الخلل ، ويقبض على من فعله ، فأخذ أيدغمش يتهيأ للركوب وإذا بخبر قد ورد من القاهرة أن العامّة ثارت في القاهرة وخرّبت كنيسة بحارة الروم ، وكنيسة بحارة زويلة ، وجاء الخبر من مدينة مصر أيضا بأن العامّة قامت بمصر في جمع كثير جدّا وزحفت إلى كنيسة المعلقة بقصر الشمع فأغلقها النصارى وهم محصورون بها وهي على أن توخذ ، فتزايد غضب السلطان وهمّ أن يركب بنفسه ويبطش بالعامّة ، ثم تأخر لمّا راجعه الأمير أيدغمش ونزل من القلعة في أربعة من الأمراء إلى مصر ، وركب الأمير بيبرس الحاجب ، والأمير الماس الحاجب إلى موضع الحفر ، وركب الأمير طينال إلى القاهرة ، وكل منهم في عدّة وافرة ، وقد أمر السلطان بقتل من قدروا عليه من العامّة ، بحيث لا يعفو عن أحد ، فقامت القاهرة ومصر على ساق ، وفرّت النهابة ، فلم يظفر الأمراء منهم إلّا بمن عجز عن الحركة بما غلبه من السكر بالخمر الذي نهبه من الكنائس ، ولحق الأمير أيدغمش بمصر وقد ركب الوالي إلى المعلقة قبل وصوله ليخرج من زقاق المعلقة من حضر للنهب ، فأخذه الرجم حتى فرّ منهم ، ولم يبق إلّا أن يحرق باب الكنيسة ، فجرّد أيدغمش ومن معه السيوف يريدون الفتك بالعامّة ، فوجدوا عالما لا يقع عليه حصر ، وخاف سوء العاقبة ، فأمسك عن القتل وأمر أصحابه بإرجاف العامّة من غير إهراق دم ، ونادى منادية : من وقف حلّ دمه. ففرّ سائر من اجتمع من العامّة وتفرّقوا ، وصار أيدغمش واقفا إلى أن أذّن العصر خوفا من عود العامّة ، ثم مضى وألزم والي مصر أن يبيت بأعوانه هناك ، وترك معه خمسين من الأوشاقية.
وأما الأمير الماس فإنه وصل إلى كنائس الحمراء وكنائس الزهريّ ليتداركها ، فإذا بها قد بقيت كيمانا ليس بها جدار قائم ، فعاد وعاد الأمراء ، فردّوا الخبر على السلطان وهو لا يزداد إلّا حنقا ، فما زالوا به حتى سكن غضبه ، وكان الأمر في هدم هذه الكنائس عجبا من العجب ، وهو أن الناس لما كانوا في صلاة الجمعة من هذا اليوم بجامع قلعة الجبل ، فعندما فرغوا من الصلاة قام رجل موله وهو يصيح من وسط الجامع : اهدموا الكنيسة التي في القلعة ، اهدموها. وأكثر من الصياح المزعج حتى خرج عن الحدّ ، ثم اضطرب. فتعجب السلطان والأمراء من قوله ، ورسم لنقيب الجيوش والحاجب بالفحص عن ذلك ، فمضيا من الجامع إلى خرائب التتر من القلعة ، فإذا فيها كنيسة قد بنيت فهدموها ، ولم يفرغوا من هدمها حتى وصل الخبر بواقعة كنائس الحمراء والقاهرة ، فكثر تعجب السلطان من شأن ذلك الفقير ، وطلب فلم يوقف له على خبر ، واتفق أيضا بالجامع الأزهر أن الناس لما اجتمعوا في هذا اليوم لصلاة الجمعة ، أخذ شخصا من الفقراء مثل الرعدة ، ثم قام بعد ما أذن قبل أن يخرج الخطيب وقال : اهدموا كنائس الطغيان والكفرة ، نعم الله أكبر ، فتح الله ونصر.