فكان مما تهدّم في هذه الزلزلة : الجامع الحاكميّ ، فإنه سقط كثير من البدنات التي فيه ، وخرب أعالي المئذنتين ، وتشعثت سقوفه وجدرانه ، فانتدب لذلك الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير ونزل إليه ومعه القضاة والأمراء ، فكشفه بنفسه وأمر برمّ ما تهدّم منه ، وإعادة ما سقط من البدنات. فأعيدت وفي كلّ بدنة منها طاق ، وأقام سقوف الجامع وبيّضه حتى عاد جديدا ، وجعل له عدّة أوقاف بناحية الجيزة وفي الصعيد وفي الإسكندرية ، تغلّ كلّ سنة شيئا كثيرا ، ورتب فيه دروسا أربعة لإقراء الفقه على مذاهب الأئمة الأربعة ، ودرسا لإقراء الحديث النبويّ ، وجعل لكل درس مدرّسا وعدة كثيرة من الطلبة ، فرتّب في تدريس الشافعية قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعيّ ، وفي تدريس الحنفية قاضي القضاة شمس الدين أحمد السروجيّ الحنفيّ ، وفي تدريس المالكية قاضي القضاة زين الدين عليّ بن مخلوف المالكيّ ، وفي تدريس الحنابلة قاضي القضاة شرف الدين الجوّانيّ ، وفي درس الحديث الشيخ سعد الدين مسعودا الحارثيّ ، وفي درس النحو الشيخ أثير الدين أبا حيان ، وفي درس القراءات السبع الشيخ نور الدين الشطنوفيّ ، وفي التصدير لإفادة العلوم علاء الدين عليّ بن إسماعيل القونويّ ، وفي مشيخة الميعاد المجد عيسى بن الخشاب ، وعمل فيه خزانة كتب جليلة ، وجعل فيه عدّة متصدّرين لتلقين القرآن الكريم ، وعدّة قرّاء يتناوبون قراءة القرآن ، ومعلما يقرئ أيتام المسلمين كتاب الله عزوجل ، وحفر فيه صهريجا بصحن الجامع ليملأ في كل سنة من ماء النيل ، ويسبل منه الماء في كلّ يوم ويستقي منه الناس يوم الجمعة ، وأجرى على جميع من قرّره فيه معاليم داره ، وهذه الأوقاف باقية إلى اليوم ، إلّا أن أحوالها اختلت كما اختلّ غيرها ، فكان ما أنفق عليه زيادة على أربعين ألف دينار.
وجرى في بنائه لهذا الجامع أمر يتعجب منه ، وهو ما حدّثني به شيخنا الشيخ المعروف المسند المعمر أبو عبد الله محمد بن ضرغام بن شكر المقري بمكة ، في سنة سبع وثمانين وسبعمائة قال : أخبرني من حضر عمارة الأمير بيبرس للجامع الحاكميّ عند سقوطه في سنة الزلزلة ، أنّه لما شرع البناة في ترميم ما وهي من المئذنة التي هي من جهة باب الفتوح ، ظهر لهم صندوق في تضاعيف البنيان ، فأخرجه الموكل بالعمارة وفتحه ، فإذا فيه قطن ملفوف على كف إنسان بزنده وعليه أسطر مكتوبة لم يدر ما هي ، والكف طرية كأنها قريبة عهد بالقطع ، ثم رأيت هذه الحكاية بخط مؤلف السيرة الناصرية موسى بن محمد بن يحيى ، أحد مقدّمي الحلقة. ثم جدّد هذا الجامع وبلط جميعه في أيام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون في ولايته الثانية ، على يد الشيخ قطب الدين محمد الهرماس في سنة ستين وسبعمائة ، ووقف قطعة أرض على الهرماس وأولاده ، وعلى زيادة في معلوم الإمام بالجامع ، وعلى ما يحتاج إليه في زيت الوقود ومرمّة في سقفه وجدرانه ، وجرى في عمارة الجامع على يد الهرماس ما حدّثني به الشيخ المعمر شمس الدين محمد بن عليّ إمام