المفتين والفتوى من الوجود. فتلكأ وحار وقال : كيف أعمل في هذا؟ فتبين لبعض الحاضرين أنه استشكل المسألة ، ولم يتبين له وجهها. فقال : لا شك أنّ مولانا السلطان لم ينكر صدور الوقف ، وإنما أنكر المصارف ، وأن تكون الجهة التي عينها هي هرماس وشهوده وقضاته ، وللسلطان أن يحكم فيها بعلمه ، ويبطل ما قرّروه من عند أنفسهم. قال : كيف يحكم لنفسه؟ قيل له : ليس هذا حكما لنفسه ، لأنه مقرّ بأصل الوقف ، وهو للمستحقين ليس له فيه شيء ، وإنما بطل وصف الوقف ، وهو المصرف الذي قرّر على غير جهة الوقف ، وله أن يوقع الشهادة على نفسه بحكم أن مصرّف هذا الوقف الجهة الفلانية دون الفلانية.
ولم يزالوا يذكرون له أوجها تبين بطلان الوقف إمّا بأصله أو بوصفه إلى أن قال : يبطل بوصفه دون أصله ، وأذعن لذلك بعد إتعاب من العلماء. وإزعاج شديد من السلطان في بيان وجوه ذكروها تبين وجه الحق ، وأنه إنما وقفه على مصالح الجامع المذكور. وهذا مما لا يشك فيه عاقل ولا يرتاب. فالتفت بعد ذلك وقال للحاضرين : كيف نعمل في إبطاله؟ فقالوا : بما قرّرناه من إشهاد السلطان على نفسه بتفصيل صحيح ، وأنه لم يزل كذلك منذ صدر منه الوقف إلى هذا الحدّ ، وغير ذلك من الوجوه. فجعل يوهم السلطان أن الشهود الذين شهدوا في هذا الوقف متى بطل هذا الوقف ثبت عليهم التساهل وجرحوا بذلك ، وقدح ذلك في عدالتهم ، ومتى جرحوا الآن لزم بطلان شهادتهم في الأوقاف المتقدّمة على هذا التاريخ ، وخيل بذلك للسلطان حتى ذكر له إجماع المسلمين على أن جرح الشاهد لا ينعطف على ما مضى من شهاداته السالفة ولو كفر ، والعياذ بالله ، وهذا مما لا خلاف فيه. ثم استقرّ رأيه على أن يبطله بشاهدين يشهدان أن السلطان لمّا صدر منه هذا الوقف كان قد اشترط لنفسه التغيير والتبديل والزيادة والنقص وقام على ذلك.
قال مؤلفه رحمهالله : انظر تثبت القضاة ، وقايس بين هذه الواقعة وما كان من تثبت القاضي تاج الدين المناوي ، وهو يومئذ خليفة الحكم ومصادمته الجبال ، وبين ما ستقف عليه من التساهل والتناقض في خبر أوقاف مدرسة جمال الدين يوسف الأستادار ، وميّز بعقلك فرق ما بين القضيتين. وهذه الأرض التي ذكرت هي الآن بيد أولاد الهرماس بحكم الكتاب الذي حاول السلطان نقضه ، فلم يوافق المناويّ. والجامع الآن متهدّم وسقوفه كلها ما من زمن إلّا ويسقط منها الشيء بعد الشيء فلا يعاد ، وكانت ميضأة هذا الجامع صغيرة بجوار ميضأته الآن ، فيما بينها وبين باب الجامع ، وموضعها الآن مخزن تعلوه طبقة عمرها شخص من الباعة يعرف بابن كرسون المراحليّ ، وهذه الميضأة الموجودة الآن أحدثت وأنشأ الفسقية التي فيها ابن كرسون في أعوام بضع وثمانين وسبعمائة ، وبيّض مئذنتي الجامع ، واستجدّ المئذنة التي بأعلى الباب المجاور للمنبر رجل من الباعة ، وكملت في جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وثمانمائة ، وخرق سقف الجامع حتى صار المؤذنون ينزلون من السطح إلى الدكة التي يكبرون فوقها وراء الإمام.