السلطان المفتين والقضاة ، فلم يحضر من الحكام غير نائب الشافعيّ ، وهو تاج الدين محمد بن إسحاق بن المناويّ ، والقضاة الثلاثة الشافعيّ والحنفيّ والحنبليّ وجدوا مرضى لم يمكنهم الحضور إلى سرياقوس ، فإن السلطان كان قد سرح إليها على العادة في كلّ سنة ، فجمعهم السلطان في برج من القصر الذي بميدان سرياقوس عشاء الآخرة ، وذكر لهم القضية وسألهم عن حكم الله تعالى في الواقعة. فأجاب الجميع بالبطلان ، غير المناوي فإنه قال : مذهب أبي حنيفة أن الشهادة الباطلة إذا اتصل بها الحكم صح ولزم. فصرخت عليه المفتون شافعيهم وحنفيهم. أمّا شافعيهم فإنه قال : ليس هذا مذهبك ولا مذهب الجمهور ، ولا هو الراجح في الدليل والنظر. وقال له ابن عقيل : هذا مما ينقض به الحكم لو حكم به حاكم وادّعى قيام الإجماع على ذلك. وقال له سراج الدين البلقينيّ : ليس هذا مذهب أبي حنيفة ، ومذهبه في العقود والفسوخ ما ذكرت من أن حكم الحاكم يكون هو المعتمد في التحليل والتحريم ، وأمّا الأوقاف ونحوها فحكم الحاكم فيها لا أثر له كمذهب الشافعيّ ، وادّعوا أن الإجماع قائم على ذلك ، وقاموا على المناويّ في ذلك قومة عظيمة فقال : نحن نحكم بالظاهر. فقالوا له : ما لم يظهر الباطن بخلافه. فقال : قال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : نحن نحكم بالظاهر. قالوا هذا الحديث كذب على النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وإنما الحديث الصحيح حديث : «إنما أنا بشر ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض الحديث» قال المناويّ : الأحكام ما هي بالفتاوى. قالوا له : فبماذا تكون؟ أفي الوجود حكم شرعيّ بغير فتوى من الله ورسوله؟ وكان قد قال في مجلس ابن الدريهم : القائم على نفيس اليهوديّ المدعوّ برأس الجالوت بين اليهود لا يلتفت لقول المفتي. فقيل له : في هذا المجلس ها أنت قد قلت مرّتين أنّ المفتين لا يعتبر قولهم ، وأنّ الفتاوى لا يعتدّ بها ، وقد أخطأت في ذلك أشدّ الخطأ ، وأنبأت عن غاية الجهل ، فإن منصب الفتوى أوّل من قام به ربّ العالمين إذ قال في كتابه المبين : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) [النساء / ١٧٦] وقال يوسف عليهالسلام : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) [يوسف / ٤١] وقال النبيّ صلىاللهعليهوسلم لعائشة رضياللهعنها : «قد أفتاني الله ربي فيما استفتيته» وكلّ حكم جاء على سؤال سائل تكفل ببيانه قرآن أو سنة فهو فتوى ، والقائم به مفت ، فكيف تقول لا يلتفت إلى الفتوى أو إلى المفتين؟ فقال سراج الدين الهنديّ وغيره : هذا كفر ، ومذهب أبي حنيفة أن من استخف بالفتوى أو المفتين فهو كافر ، فاستدرك نفسه بعد ذلك وقال : لم أرد إلّا أنّ الفتوى إذا خالف المذهب فهي باطلة. قالوا له : وأخطأت في ذلك أيضا ، لأنّ الفتوى قد تخالف المذهب المعين ولا تخالف الحق في نفس الأمر. قال : فأردت بالفتوى التي تخالف الحقّ. قالوا : فأطلقت في موضع التقييد وذلك خطأ. فقال السلطان حينئذ : فإذا قدّر هذا وادّعيت أن الفتوى لا أثر لها ، فنبطل