خاتمة : بنصر العزيز الجبار ينتصر الإمام نزار. ولما مات وحضر الناس إلى القصر للتعزية أفحموا عن أن يوردوا في ذلك المقام شيئا ، ومكثوا مطرقين لا ينبسون ، فقام صبيّ من أولاد الأمراء الكنانيين وفتح باب التعزية وأنشد :
أنظر إلى العلياء كيف تضام |
|
ومآتم الأحساب كيف تقام |
خبرنني ركب الركاب ولم يدع |
|
للسفر وجه ترحل فأقاموا |
فاستحسن الناس إيراده وكأنه ، طرّق لهم كيف يوردون المراثي ، فنهض الشعراء والخطباء حينئذ وعزوا وأنشد كلّ واحد ما عمل في التعزية ، وخلّف من الأولاد ابنه المنصور ، وولي الخلافة من بعده ، وابنة تدعى سيدة الملك ، وكان أسمر طوالا ، أصهب الشعر ، أعين أشهل عريض المنكبين ، شجاعا كريما حسن العفو والقدرة ، لا يعرف سفك الدماء البتة ، مع حسن الخلق والقرب من الناس ، والمعرفة بالخيل وجوارح الطير ، وكان محبا للصيد مغرىّ به حريصا على صيد السباع ، ووزر له يعقوب بن كلس اثنتي عشرة سنة وشهرين وتسعة عشر يوما ، ثم من بعده عليّ بن عمر العدّاس سنة واحدة ، ثم أبو الفضل جعفر بن الفرات سنة ، ثم أبو عبد الله الحسين بن الحسن البازيار سنة وثلاثة أشهر ، ثم أبو محمد بن عمار شهرين ، ثم الفضل بن صالح الوزيريّ أياما ، ثم عيسى بن نسطورس سنة وعشرة أشهر.
وكانت قضاته : أبو طاهر محمد بن أحمد ، أبو الحسن عليّ بن النعمان ، ثم أبو عبد الله محمد بن النعمان. وخرج إلى السفر أوّلا في صفر سنة سبع وستين ، وعاد من العباسية وخرج ثانيا وظفر بأفتكين ، وخرج ثالثا في صفر سنة اثنتين وسبعين ، ورجع بعد شهر إلى قصره بالقاهرة ، وخرج رابعا في ربيع الأوّل سنة أربع وستين ، فنزل منية الأصبغ وعاد بعد ثمانية أشهر واثني عشر يوما ، وخرج خامسا في عاشر ربيع الآخر سنة خمس وثمانين ، فأقام مبرّزا أربعة عشر شهرا وعشرين يوما ، ومات في هذه الخرجة ببلبيس. وهو أوّل من اتخذ من أهل بيته وزيرا ، أثبت اسمه على الطرز ، وقرن اسمه باسمه ، وأوّل من لبس منهم الخفين والمنطقة ، وأوّل من اتخذ منهم الأتراك واصطنعهم وجعل منهم القوّاد ، وأوّل من رمى منهم بالنشاب ، وأوّل من ركب منهم بالذؤابة الطويلة والحنك وضرب الصوالجة ولعب بالرمح ، وأوّل من عمل مائدة في الشرطة السفلى في شهر رمضان يفطر عليها أهل الجامع العتيق ، وأقام طعاما في جامع القاهرة لمن يحضر في رجب وشعبان ورمضان ، واتخذ الحمير لركوبه إياها ، وكانت أمّه أمّ ولد اسمها درزارة ، وكان يضرب بأيامه المثل في الحسن ، فإنها كانت كلها أعيادا وأعراسا لكثرة كرمه ومحبته للعفو واستعماله لذلك ، ولا أعلم له بمصر من الآثار غير تأسيس الجامع الحاكميّ ، وما عدا ذلك فذهب اسمه ومحي رسمه.