وصول الرزق إليها ، وكيف أتى هذا الرزق؟ و : أنّى ، سؤال عن الكيفية وعن المكان وعن الزمان ، والأظهر أنه سؤال عن الجهة ، فكأنه قال : من أي جهة لك هذا الرزق؟ ولذلك قال أبو عبيدة : معناه من أين؟ ولا يبعد أن يكون سؤالا عن الكيفية ، أي كيف تهيأ وصول هذا الرزق إليك؟ وقال الكميت :
أنّى ومن أين أتاك الطرب |
|
من حيث لا صبوة ولا طرب |
وجوابها سؤاله بأنه (مِنْ عِنْدِ اللهِ) ظاهره أنه لم : يأت به آدمي البتة ، بل هو رزق يتعهدني به الله تعالى. وظاهره أنه كان يسأل كلما وجد عندها رزقا ، لأن من الجائز في الفعل أن يكون هذا الثاني من جهة غير الجهة التي تقدّمت ، فتجيبه بأنه من عند الله ، وتحيله على مسبب الأسباب ، ومبرز الأشياء من العدم الصرف إلى الوجود المحض ، فعند ذلك يستريح قلب زكريا بكونه لم يسبقه أحد إلى تعهد مريم ، وبكونه يشهد مقاما شريفا ، واعتناء لطيفا بمن اختارها الله تعالى بأن جعلها في كفالته.
وهذا الخارق العظيم ، قيل : هو بدعوة زكريا لها بالرزق ، فيكون من خصائص زكريا. وقيل : كان تأسيسا لنبوّة ولدها عيسى. وهذان القولان شبيهان بأقوال المعتزلة حيث ينفون وجود الخارق على غير النبي ، إلا إن كان ذلك في زمان نبي ، فيكون ذلك معجزة لذلك النبي.
والظاهر أنها كرامة خص الله بها مريم ، ولو كان خارقا لأجل زكريا لم يسأل عنه زكريا ، وأما كون ذلك لأجل نبوة عيسى ، فهو كان لم يخلق بعد.
قال الزجاج : وهذا الخارق من الآية التي قال تعالى : (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) (١) وقال الجبائي : يجوز أن يكون من معجزات زكريا ، دعا لها على الإجمال لأن يوصل لها رزقها ، وربما غفل عن تفاصيل ذلك ، فلما رأى شيئا معينا في وقت معين ، سأل عنه ، فعلم أنه معجزة ، فدعا به ، أو سأل عن ذلك خشية أن يكون الآتي به إنسانا ، فأخبرته أنه (مِنْ عِنْدِ اللهِ) ويحتمل أن يكون على أيدي المؤمنين ، وسأل لئلا يكون على وجه لا ينبغي.
(إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) تقدّم تفسير هذه الجملة ، والظاهر أنها من كلام مريم وقال الطبري : ليس من كلام مريم ، وأنه خبر من الله تعالى لمحمد صلىاللهعليهوسلم ..
__________________
(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٩١.