ما يسرون ، فإني أعلم ما هو أخفى من ذلك وهو مضمرات صدورهم لم يظهروه بألسنتهم. والظاهر الأول أورد ذلك على أنّه وعيد مواجهون به.
والذات لفظ مشترك ومعناه هنا أنه تأنيث ذي بمعنى صاحب. فأصله هنا عليم بالمضمرات ذوات الصدور ، ثم حذف الموصوف ، وغلبت إقامة الصفة مقامه. ومعنى صاحبة الصدور : الملازمة له التي لا تنفك عنه كما تقول : فلان صاحب فلان ، ومنه أصحاب الجنة أصحاب النار. واختلفوا في الوقف على ذات. فقال الأخفش والفراء وابن كيسان : بالتاء مراعاة لرسم المصحف. وقال الكسائي والجرمي : بالهاء لأنها تاء تأنيث.
(إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها) الحسنة هنا ما يسر من رخاء وخصب ونصرة وغنيمة ، ونحو ذلك من المنافع. والسيئة ضد ذلك. بين تعالى بذلك فرط عداوتهم حيث يسوءهم ما نال المؤمنين من الخير ، ويفرحون بما يصيبهم من الشدة. قال الزمخشري : المس مستعار لمعنى الإصابة ، فكان المعنى واحدا. ألا ترى إلى قوله : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ، وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ) (١) الآية (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (٢) (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) (٣) وقال ابن عطية : ذكر الله تعالى المس في الحسنة ليبين أن بأدنى طروء الحسنة تقع المساءة بنفوس هؤلاء المبغضين ، ثم عادل ذلك في السيئة بلفظ الإصابة ، وهي عبارة عن التمكن. لأن الشيء المصيب لشيء هو متمكن منه ، أو فيه. فدل هذا النوع البليغ على شدة العداوة ، إذ هو حقد لا يذهب عند نزول الشدائد ، بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين انتهى كلامه. والنكرة هنا في سياق الشرط بأن تعم عموم البدل ، ولم يأت معرفا لإيهام التعيين بالعهد ، ولإيهام العموم الشمولي. وقابل الحسنة بالسيئة ، والمساءة بالفرح وهي مقابلة بديعة.
قال قتادة والربيع وابن جريج : الحسنة بظهوركم على العدو ، والغنيمة منهم ، والتتابع بالدخول في دينكم ، وخصب معاشكم. والسيئة بإخفاق سرية منكم ، أو إصابة عدو منكم ، أو اختلاف بينكم. وقال الحسن : الحسنة الألفة ، واجتماع الكلمة. والسيئة إصابة العدو ، واختلاف الكلمة. وقال ابن قتيبة : الحسنة النعمة. والسيئة المصيبة. وهذه الأقوال هي على سبيل التمثيل ، وليست على سبيل التعيين.
__________________
(١) سورة التوبة : ٩ / ٥٠.
(٢) سورة النساء : ٤ / ٧٩.
(٣) سورة المعارج : ٧٠ / ٢٠ ـ ٢١.