لأنّ الاستفهام لم يقع عن المكان ولا عن الزمان هنا ، إنما الاستفهام وقع عن الحالة التي اقتضت لهم ذلك ، سألوا عنها على سبيل التعجب. وقال الزمخشري : أنى هذا من أين هذا ، كقوله : «أنى لك هذا» (١) لقوله : «من عند أنفسكم» (٢) وقوله : «من عند الله» (٣) انتهى كلامه. والظرف إذا وقع خبر للمبتدأ ألا يقدر داخلا عليه حرف جر غير في ، أما أن يقدّر داخلا عليه من فلا ، لأنه إنما انتصب على إسقاط في. ولك إذا أضمر الظرف تعدى إليه الفعل بوساطة في إلّا أن يتسع في الفعل فينصبه نصب التشبيه بالمفعول به ، فتقدير الزمخشري : أنى هذا ، من أين هذا تقدير غير سائغ ، واستدلاله على هذا التقدير بقوله : من عند أنفسكم ، وقوله : من عند الله ، وقوف مع مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ ، وذهول عن هذه القاعدة التي ذكرناها. وأمّا على ما قررناه ، فإنّ الجواب جاء على مراعاة المعنى ، لا على مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ. وقد تقرر في علم العربية أن الجواب يأتي على حسب السؤال مطابقا له في اللفظ ، ومراعى فيه المعنى لا اللفظ. والسؤال بأنى سؤال عن تعيين كيفية حصول هذا الأمر ، والجواب بقوله : من عند أنفسكم يتضمن تعيين الكيفية ، لأنه بتعيين السبب تتعين الكيفية من حيث المعنى. لو قيل على سبيل التعجب والإنكار : كيف لا يحج زيد الصالح ، وأجيب ذلك بأن يقال : بعدم استطاعته حصل الجواب وانتظم من المعنى ، أنه لا يحج وهو غير مستطيع.
(قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) الإضمار في هو راجع إلى المصيبة على المعنى ، لا على اللفظ. وتقدم تفسير المصيبة في تفسير مقابل المثلين : أهو القتل المقابل للقتل والأسر ، أو المقابل للقتل فقط؟ أو الانهزام المقابل للانهزامين؟ والمعنى : أن سبب هذه المصيبة صدر من عند أنفسكم. فقيل : هو الفداء الذي آثروه على القتل يوم بدر من غير إذن الله تعالى ، قال معناه : عمر بن الخطاب ، وعليّ ، والحسن ، وروى عليّ في ذلك : أنّه لما فرغت هزيمة المشركين يوم بدر جاء جبريل إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : «يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم فداء الأسرى ، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين : أن يقدموا الأسرى فتضرب أعناقهم ، أو يأخذوا الفداء على أن يقتل من أصحابك عدة هؤلاء الأسرى ، فدعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم الناس ، فذكر ذلك لهم فقالوا : يا رسول الله عشائرنا وإخواننا نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا ، ويستشهد منا عدتهم ، فليس في ذلك ما نكره». فقتل
__________________
(١) سورة آل عمران : ٣ / ٣٧.
(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٦٥.
(٣) سورة آل عمران : ٣ / ٣٧.