عطف على «بآية» بناء على أنّ قوله : «بآية» ظرف مستقرّ في موضع الحال كما تقدم أو عطف على جملة (جِئْتُكُمْ) فيقدّر فعل جئتكم بعد واو العطف ، (وَمُصَدِّقاً) حال من ضمير المقدّر معه ، وليس عطفا على قوله : (وَرَسُولاً) [آل عمران : ٤٩] لأنّ رسولا من كلام الملائكة ، (وَمُصَدِّقاً) من كلام عيسى بدليل قوله : (لِما بَيْنَ يَدَيَ).
والمصدّق : المخبر بصدق غيره ، وأدخلت اللام على المفعول للتقوية ، للدلالة على تصديق مثبت محقّق ، أي مصدّقا تصديقا لا يشوبه شك ولا نسبة إلى خطأ. وجعل التصديق متعديا إلى التوراة توطئة لقوله : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ).
ومعنى ما بين يديّ ما تقدم قبلي ، لأنّ المتقدّم السابق يمشي بين يدي الجائي فهو هنا تمثيل لحالة السبق ، وإن كان بينه وبين نزول التوراة أزمنة طويلة ، لأنّها لما اتّصل العمل بها إلى مجيئه ، فكأنها لم تسبقه بزمن طويل. ويستعمل بين يدي كذا في معنى المشاهد الحاضر ، كما تقدم في قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) في سورة البقرة.
وعطف قوله (وَلِأُحِلَ) على (رَسُولاً) وما بعده من الأحوال : لأنّ الحال تشبه العلة ؛ إذ هي قيد لعاملها ، فإذا كان التقييد على معنى التعليل شابه المفعول لأجله ، وشابه الجرور بلام التعليل ، فصح أن يعطف عليها مجرور بلام التعليل. ويجوز أن يكون عطفا على قوله : (بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) فيتعلّق بفعل جئتكم. وعقب به قوله : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَ) تنبيها على أنّ النسخ لا ينافي التصديق ؛ لأنّ النسخ إعلام بتغيّر الحكم. وانحصرت شريعة عيسى في إحياء أحكام التوراة وما تركوه فيها وهو في هذا كغيره من أنبياء بني إسرائيل ، وفي تحليل بعض ما حرمه الله عليهم رعيا لحالهم في أزمنة مختلفة ، وبهذا كان رسولا. قيل أحلّ لهم الشحوم ، ولحوم الإبل ، وبعض السمك ، وبعض الطير : الذي كان محرّما من قبل ، وأحلّ لهم السبت ، ولم أقف على شيء من ذلك في الإنجيل. وظاهر هذا أنّه لم يحرّم عليهم ما حلّل لهم ، فما قيل : إنّه حرّم عليهم الطلاق فهو تقوّل عليه وإنّما حذّرهم منه وبيّن لهم سوء عواقبه ، وحرّم تزوج المرأة المطلّقة وينضم إلى ذلك ما لا تخلو منه دعوة : من تذكير ، ومواعظ ، وترغيبات.
(وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ).