والبياض والسواد بياض وسواد حقيقيان يوسم بهما المؤمن والكافر يوم القيامة ، وهما بياض وسواد خاصّان لأن هذا م أحوال الآخرة فلا داعي لصرفه عن حقيقته.
وقوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) تفصيل للإجمال السابق ، سلك فيه طريق النّشر المعكوس ، وفيه إيجاز لأنّ أصل الكلام ، فأمّا الّذين اسودّت وجوههم فهم الكافرون يقال لهم أكفرتم إلى آخر : وأمّا الّذين ابيضّت وجوههم فهم المؤمنون وفي رحمة الله هم فيها خالدون.
قدّم عند وصف اليوم ذكر البياض ، الّذي هو شعار أهل النّعيم ، تشريفا لذلك اليوم بأنّه يوم ظهور رحمة الله ونعمته ، ولأنّ رحمة الله سبقت غضبه ، ولأنّ في ذكر سمة أهل النّعيم ، عقب وعيد بالعذاب ، حسرة عليهم ، إذ يعلم السّامع أنّ لهم عذابا عظيما في يوم فيه نعيم عظيم ، ثمّ قدّم في التفصيل ذكر سمة أهل العذاب تعجيلا بمساءتهم.
وقوله (أَكَفَرْتُمْ) مقول قول محذوف يحذف مثله في الكلام لظهوره : لأنّ الاستفهام لا يصدر إلّا من مستفهم ، وذلك القول هو جواب أمّا ، ولذلك لم تدخل الفاء على (أَكَفَرْتُمْ) ليظهر أن ليس هو الجواب وأن الجواب حذف برمّته.
وقائل هذا القول مجهول ، إذ لم يتقدّم ما يدلّ عليه ، فيحتمل أنّ ذلك يقوله أهل المحشر لهم وهم الّذين عرفوهم في الدّنيا مؤمنين ، ثمّ رأوهم وعليهم سمة الكفر ، كما ورد في حديث الحوض «فليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ثمّ يختلجون دوني ، فأقول : أصيحابي ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك» والمستفهم سلفهم من قومهم أو رسولهم ، فالاستفهام على حقيقته مع كنايته عن معنى التعجّب.
ويحتمل أنّه يقوله تعالى لهم ، فالاستفهام مجاز عن الإنكار والتغليط. ثمّ إن كان المراد بالّذين اسودّت وجوههم أهل الكتاب ، فمعنى كفرهم بعد إيمانهم تغييرهم شريعة أنبيائهم وكتمانهم ما كتموه فيها ، أو كفرهم بمحمد صلىاللهعليهوسلم بعد إيمانهم بموسى وعيسى ، كما تقدّم في قوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) [آل عمران : ٩٠] وهذا هو المحمل البيّن ، وسياق الكلام ولفظه يقتضيه ، فإنّه مسوق لوعيد أولئك. ووقعت تأويلات من المسلمين وقعوا بها فيما حذّرهم منه القرآن ، فتفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات : الذين قال فيهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «فلا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض» مثل أهل الردة الذين ماتوا على ذلك ، فمعنى الكفر بعد الإيمان حينئذ ظاهر ، وعلى هذا المعنى تأوّل الآية مالك بن أنس فيما روى عنه ابن القاسم وهو في ثالثة المسائل من سماعه من كتاب