وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران : ١٠٤] وما بعده من النهي في قوله (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) [آل عمران : ١٠٥] الآية ، لم يكن حاصلا عندهم من قبل.
ويجوز أن يكون المعنى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) موصوفين بتلك الصّفات فيما مضى تفعلونها إمّا من تلقاء أنفسكم ، حرصا على إقامة الدّين واستحسانا وتوفيقا من الله في مصادفتكم لمرضاته ومراده ، وإمّا بوجوب سابق حاصل من آيات أخرى مثل قوله : (وَتَواصَوْا بِالْحَقِ) [العصر : ٣] وحينئذ فلمّا أمرهم بذلك على سبيل الجزم ، أثنى عليهم بأنّهم لم يكونوا تاركيه من قبل ، وهذا إذا بنينا على أنّ الأمر في قوله (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) [آل عمران : ١٠٤] تأكيدا لما كانوا يفعلونه ، وإعلام بأنّه واجب ، أو بتأكيد وجوبه على الوجوه التي قدّمتها عند قوله (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ).
ومن الحيرة التجاء جمع من المفسرين إلى جعل الإخبار عن المخاطبين بكونهم فيما مضى من الزمان أمة بمعنى كونهم كذلك في علم الله تعالى وقدره أو ثبوت هذا الكون في اللوح المحفوظ أو جعل كان بمعنى صار.
والمراد بأمّة عموم الأمم كلّها على ما هو المعروف في إضافة أفعل التفضيل إلى النكرة أن تكون للجنس فتفيد الاستغراق.
وقوله (أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) الإخراج مجاز في الإيجاد والإظهار كقوله تعالى (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) [طه : ٨٨] أي أظهر بصوغه عجلا جسدا.
والمعنى : كنتم خير الأمم التي وجدت في عالم الدنيا. وفاعل (أُخْرِجَتْ) معلوم وهو الله موجد الأمم ، والسائق إليها ما به تفاضلها. والمراد بالناس جميع البشر من أوّل الخليقة.
وجملة : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) حال في معنى التّعليل إذ مدلولها ليس من الكيفيات المحسوسة حتّى تحكى الخيرية في حال مقارنتها لها ، بل هي من الأعمال النّفسية الصالحة للتعليل لا للتوصيف ، ويجوز أن يكون استئنافا لبيان كونهم خير أمّة. والمعروف والمنكر تقدّم بيانهما قريبا.
وإنّما قدّم (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) على قوله (وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) لأنهما الأهم في هذا المقام المسوق للتنويه بفضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحاصلة من قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ