وذكر السماوات والأرض جار على طريقة العرب في تمثيل شدّة الاتّساع. وليس المراد حقيقة عرض السماوات والأرض ليوافق قول الجمهور من علمائنا بأن الجنّة مخلوقة الآن ، وأنّها في السماء ، وقيل : هو عرضها حقيقة ، وهي مخلوقة الآن لكنّها أكبر من السماوات وهي فوق السماوات تحت العرش ، وقد روي : العرش سقف الجنة. وأما من قال : إن الجنّة لم تخلق الآن وستخلق يوم القيامة ، وهو قول المعتزلة وبعض أهل السنّة منهم منذر بن سعيد البلّوطي الأندلسي الظاهري ، فيجوز عندهم أن تكون كعرض السماوات والأرض بأن تخلق في سعة الفضاء الّذي كان يملؤه السماوات والأرض أو في سعة فضاء أعظم من ذلك. وأدلّة الكتاب والسنّة ظاهرة في أنّ الجنّة مخلوقة ، وفي حديث رؤيا رآها النّبيءصلىاللهعليهوسلم ، وهو الحديث الطويل الذي فيه قوله : «إنّ جبريل وميكاييل قالا له : ارفع رأسك ، فرفع فإذا فوقه مثل السحاب ، قالا : هذا منزلك ، قال : فقلت : دعاني أدخل منزلي ، قالا : إنّه بقي لك عمر لم تستكمله فلو استكملت أتيت منزلك».
(أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤)).
أعقب وصف الجنّة بذكر أهلها لأنّ ذلك ممّا يزيد التّنويه به ، ولم يزل العقلاء يتخيّرون حسن الجوار كما قال أبو تمام :
من مبلغ أفناء يعرب كلّها |
|
أني بنيت الجار قبل المنزل |
وجملة (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) استئناف بياني لأنّ ذكر الجنّة عقب ذكر النّار الموصوفة بأنّها أعدّت للكافرين يثير في نفوس السامعين أن يتعرّفوا من الذين أعدّت لهم : فإن أريد بالمتّقين أكمل ما يتحقّق فيه التّقوى ، فإعدادها لهم لأنّهم أهلها ـ فضلا من الله تعالى ـ الّذين لا يلجون النار أصلا ـ عدلا من الله تعالى ـ فيكون مقابل قوله : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [آل عمران : ١٣١] ، ويكون عصاة المؤمنين غير التّائبين قد أخذوا بحظّ من الدارين ، لمشابهة حالهم حال الفريقين عدلا من الله وفضلا ، وبمقدار الاقتراب من أحدهما يكون الأخذ بنصيب منه ، وأريد المتّقون في الجملة فالإعداد لهم باعتبار أنّهم مقدّرون من أهلها في العاقبة.
وقد أجرى على المتّقين صفات ثناء وتنويه ، هي ليست جماع التّقوى ، ولكن اجتماعها في محلّها مؤذن بأنّ ذلك المحلّ الموصوف بها قد استكمل ما به التقوى ، وتلك هي مقاومة الشحّ المطاع ، والهوى المتّبع.