خذلان المسلمين ، وكلّه تمهيد لما يأتي من قوله : (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ).
وقوله : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) تفصيل لتنازعتم ، وتبيين ل (عصيتم) ، وتخصيص له بأنّ العاصين بعض المخاطبين المتنازعين ، إذ الّذين أرادوا الآخرة ليسوا بعاصين ، ولذلك أخّرت هاته الجملة إلى بعد الفعلين ، وكان مقتضى الظاهر أن يعقب بها قوله : (وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) وفي هذا الموضع للجملة ما أغنى عن ذكر ثلاث جمل وهذا من أبدع وجوه الإعجاز ، والقرينة واضحة.
والمراد بقوله : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) إرادة نعمة الدنيا وخيرها ، وهي الغنيمة ، لأنّ من أراد الغنيمة لم يحرص على ثواب الامتثال لأمر الرسول بدون تأويل ، وليس هو مفرّطا في الآخرة مطلقا ، ولا حاسبا تحصيل خير الدنيا في فعله ذلك مفيتا عليه ثواب الآخرة في غير ذلك الفعل ، فليس في هذا الكلام ما يدلّ على أنّ الفريق الّذين أرادوا ثواب الدنيا قد ارتدّوا عن الإيمان حينئذ ، إذ ليس الحرص على تحصيل فائدة دنيوية من فعل من الأفعال ، مع عدم الحرص على تحصيل ثواب الآخرة من ذلك الفعل بدالّ على استخفاف بالآخرة ، وإنكار لها ، كما هو بيّن ، ولا حاجة إلى تقدير : منكم من يريد الدنيا ، فقط. وإنّما سمّيت مخالفة من خالف أمر الرسول عصيانا ، مع أن تلك المخالفة كانت عن اجتهاد لا عن استخفاف ، إذ كانوا قالوا : إنّ رسول الله أمرنا بالثبات هنا لحماية ظهور المسلمين ، فلمّا نصر الله المسلمين فما لنا وللوقوف هنا حتّى تفوتنا الغنائم ، فكانوا متأوّلين ، فإنّما سمّيت هنا عصيانا لأنّ المقام ليس مقام اجتهاد ، فإنّ شأن الحرب الطاعة للقائد من دون تأويل ، أو لأنّ التأويل كان بعيدا فلم يعذروا فيه ، أو لأنّه كان تأويلا لإرضاء حبّ المال ، فلم يكن مكافئا لدليل وجوب طاعة الرّسول.
وإنّما قال : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) ليدلّ على أنّ ذلك الصرف بإذن الله وتقديره ، كما كان القتل بإذن الله وأنّ حكمته الابتلاء ، ليظهر للرسول وللنّاس من ثبت على الإيمان من غيره ، ولأنّ في الابتلاء أسرارا عظيمة في المحاسبة بين العبد وربّه سبحانه وقد أجمل هذا الابتلاء هنا وسيبيّنه.
وعقب هذا الملام بقوله : (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) تسكينا لخواطرهم ، وفي ذلك تلطّف معهم على عادة القرآن في تقريع المؤمنين ، وأعظم من ذلك تقديم العفو على الملام في ملام الرسول ـ عليهالسلام ـ في قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة : ٤٣] ، فتلك رتبة أشرف من رتبة تعقيب الملام بذكر العفو ، وفيه أيضا دلالة على صدق إيمانهم إذ