على الصدر : لأنّه يؤكد ما افتتحت به السورة من قوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) [آل عمران : ٢ ، ٣].
والشهادة حقيقتها خبر يصدّق به خبر مخبر وقد يكذّب به خبر آخر كما تقدم عند قوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) في سورة البقرة [٢٨٢]. وإذ قد كان شأنه أن يكون للتصديق والتكذيب في الحقوق ، كان مظنّة اهتمام المخبر به والتثبّت فيه ، فلذلك أطلق مجازا على الخبر الذي لا ينبغي أن يشكّ فيه قال تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [المنافقون : ١] وذلك على سبيل المجاز المرسل بعلاقة التلازم ، فشهادة الله تحقيقه وحدانيته بالدلائل التي نصبها على ذلك ، وشهادة الملائكة تحقيقهم ذلك فيما بينهم ، وتبليغ بعضهم ذلك إلى الرسل ، وشهادة أولي العلم تحقيقهم ذلك بالحجج والأدلة.
فإطلاق الشهادة على هذه الأخبار مجاز بعلاقة اللزوم ، أو تشبيه الإخبار بالإخبار أو المخبر بالمخبر ، ولك أن تجعل «شهد» بمعنى بيّن وأقام الأدلة ، شبه إقامة الأدلة على وحدانيته : من إيجاد المخلوقات ونصب الأدلة العقلية ، بشهادة الشاهد بتصديق الدعوى في البيان والكشف على طريق الاستعارة التبعية ، وبيّن ذلك الملائكة بما نزلوا به من الوحي على الرسل ، وما نطقوا به من محامد ، وبيّن ذلك أولو العلم بما أقاموا من الحجج على الملاحدة ، ولك أن تجعل شهادة الله بمعنى الدلالة ونصب الأدلة ، وشهادة الملائكة وأولي العلم بمعنى آخر وهو الإقرار أو بمعنيين : إقرار الملائكة ، واحتجاج أولي العلم ، ثم تبنيه على استعمال شهد في معان مجازية ، مثل : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ) [الأحزاب : ٥٦] ، أو على استعمال شهد في مجاز أعم ، وهو الإظهار ، حتى يكون نصب الأدلة والإقرار والاحتجاج من أفراد ذلك العام ، بناء على عموم المجاز.
وانتصب (قائِماً بِالْقِسْطِ) على الحال من الضمير في قوله : (إِلَّا هُوَ) أي شهد بوحدانيته وقيامه بالعدل ، ويجوز أن يكون حالا من اسم الجلالة من قوله : (شَهِدَ اللهُ) فيكون حالا مؤكدة لمضمون شهد ؛ لأنّ الشهادة هذه قيام بالقسط ، فالشاهد بها قائم بالقسط ، قال تعالى : (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) [المائدة : ٨]. وزعم ابن هشام في الباب الرابع : أنّ كونه حالا مؤكدة وهم ، وعلّله بما هو وهم. وقد ذكر الشيخ محمد الرصاع جريان بحث في إعراب مثل هذه الحال من سورة الصف في درس شيخه محمد ابن عقاب.