وحقيقة التبشير : الإخبار بما يظهر سرور المخبر (بفتح الباء) وهو هنا مستعمل في ضدّ حقيقته ، إذ أريد به الإخبار بحصول العذاب ، وهو موجب لحزن المخبرين ، فهذا الاستعمال في الضدّ معدود عند علماء البيان من الاستعارة ، ويسمّونها تهكّمية لأنّ تشبيه الضدّ بضدّه لا يروج في عقل أحد إلّا على معنى التهكّم ، أو التمليح ، كما أطلق عمرو ابن كلثوم. اسم الأضياف على الأعداء ، وأطلق القرى على قتل الأعداء ، في قوله :
نزلتم منزل الأضياف منّا |
|
فعجّلنا القرى أن تشتمونا |
قريناكم فعجّلنا قراكم |
|
قبيل الصّبح مرداة طحونا |
قال السكاكي : وذلك بواسطة انتزاع شبه التضادّ وإلحافه بشبه التناسب.
وجيء باسم الإشارة في قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) لأنّهم تميّزوا بهذه الأفعال التي دلت عليها صلات الموصول أكمل تمييز ، وللتنبيه على أنّهم أحقّاء بما سيخبر به عنهم بعد اسم الإشارة.
واسم الإشارة مبتدأ ، وخبره (الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) ، وقيل هو خبر (إنّ) وجملة (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) وهو الجاري على مذهب سيبويه لأنّه يمنع دخول الفاء في الخبر مطلقا.
وحبط الأعمال إزالة آثارها النافعة من ثواب ونعيم في الآخرة ، وحياة طيّبة في الدنيا ، وإطلاق الحبط على ذلك تمثيل بحال الإبل التي يصيبها الحبط وهو انتفاخ في بطونها من كثرة الأكل ، يكون سبب موتها ، في حين أكلت ما أكلت للالتذاذ به.
وتقدم عند قوله تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) في سورة البقرة [٢١٧].
والمعنى هنا أنّ اليهود لما كانوا متديّنين يرجون من أعمالهم الصالحة النفع بها في الآخرة بالنجاة من العقاب ، والنفع في الدنيا بآثار رضا الله على عباده الصالحين ، فلمّا كفروا بآيات الله ، وجحدوا نبوءة محمد صلىاللهعليهوسلم ، وصوّبوا الذين قتلوا الأنبياء والذين يأمرون بالقسط ، فقد ارتدّوا عن دينهم فاستحقّوا العذاب الأليم ، ولذلك ابتدئ به بقوله : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ). فلا جرم تحبط أعمالهم فلا ينتفعون بثوابها في الآخرة ، ولا بآثارها الطيّبة في الدنيا ، ومعنى (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ما لهم من ينقذهم من العذاب الذي أنذروا به.